منتديات عيون بغداد
منتديات عيون بغداد
منتديات عيون بغداد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


اهلا وسهلا بكم
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
زوار منتديات عيون العراق ارجو منكم التسجيل او الدخول والعضاء ارجو منكم الرد علا المواضيع

 

 قصص واقعية

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
صغير بس خبير
مشرف
مشرف



ذكر عدد المساهمات : 460
نقاط : 626
السٌّمعَة : 0
المزاج : جيد جدا

قصص واقعية Empty
مُساهمةموضوع: قصص واقعية   قصص واقعية Emptyالخميس يونيو 24, 2010 12:05 pm

إبراهيم قصتي بلا نهاية






بينما هو في حضن أمه الدافئ.. يبتعد قليلاً ثم يعود إليه كلما أحس ببرودة أطرافه.. عمره أربع سنوات.. بهجة العائلة وعبيرها.. هو نحلة في بستان.. تزيد من جماله تلك الضحكات عندما يطلقها كتغريد العصافير..

أم إبراهيم منشغلة في أعمال المنزل.. إبراهيم يقفز كالأرنب.. وبينما كانت الأم تعد الغداء، انهمر المطر.. خرج إبراهيم يرقب القطرات كيف تسقط على أشجار الحديقة.. خطوة.. ثم خطوة.. يصل إلى الباب الرئيس.. وعند الباب يجد وردة جميلة منفردة.. يقطفها ليعطيها أمه.. وقبل أن يعود إلى الخلف إذ بسيارة تقف.. سائقها شاب.. بجواره امرأة.. تنادي إبراهيم.. بيدها حلوى.. يتناول الحلوى تمسك بيده.. ترفعه لتقبله..تحمله بين أحضانها.. يدير الشاب مقود السيارة ليطلقها كالبرق.. يصرخ إبراهيم أريد أمي.. أمي..

حل الظلام.. تغيرت القرية.. طريق طويل.. ثم في مكان عام يترك إبراهيم وحيداً.. أمي.. أبي.. وبكاء حزين.. يدور بين المارة.. عيناه شاخصتان.. قلبه يخفق..

لماذا امتدت يد الغدر إلى إبراهيم هل للثأر أم لقصة يخفيها الزمن؟..

وفي ساعة متأخرة من الليل.. تعود نورة من عملها لتجده وحيداً بجوار أحد المنازل.. ياه طفل.. كم هذه الأم مهملة.. قالتها نورة وهي متجهة نحو الباب الذي بجانبه.. تطرق.. ثم تطرق.. يفتح رجل كبير في السن لتسأله عن الطفل ويؤكد لها أنه لا أطفال لديه فزوجته ماتت منذ سنوات وتزوَّج أبناؤه وتركوه وحيداً في هذا المنزل.. عادت نورة نحو الطفل وحملته بين أحضانها.. أين تذهب به.. وبعد سلسلة من الأفكار.. اتصلت بمركز الشرطة.. وهناك يصحو إبراهيم ليعاود البكاء والحنين.. أيام يقضيها في مركز التائهين.. يتحول بعدها إلى بيت الطفل لرعاية الأيتام.. سنوات.. إبراهيم الآن في الابتدائية.. لا يذكر من أمه إلا أحلاماً.. يغوص مع أقرانه في لعبهم.. ثم يعود للأفكار.. تناديه المربية كلما لمحته يجلس منفرداً لتحتضنه لعلها تعطيه شيئاً من حنان أمه المفقود.. إبراهيم الآن أبيض البشرة مشرئبٌ بحمرة الورد.. أشقر الشعر.. عربي الملامح..

سنوات.. وما زال إبراهيم في دار الأيتام..

إبراهيم قصة طفل في الرابعة من عمره تقريباً أحضروه إلينا في مركز التائهين في شعبان 2241هـ وهو لا يعرف من أمره إلا اسمه الذي ينطقه بصعوبة عاش معنا أياماً حزينة رغم ما يتخللها من لعب ومرح في جنبات المركز نقل بعدها إلى بيت الطفل لرعاية الأيتام.


بنت أم القرى – مكة المكرمة


**
المصدر: مجلة الأسرة العدد (177) ذو الحجة 1428هـ



تحرير: حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صغير بس خبير
مشرف
مشرف



ذكر عدد المساهمات : 460
نقاط : 626
السٌّمعَة : 0
المزاج : جيد جدا

قصص واقعية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص واقعية   قصص واقعية Emptyالخميس يونيو 24, 2010 12:06 pm

((( شاب في العشرينيات )))... يدخل ساحر المستشفى، ويتحدى شياطينه!!



محمد غريب الشويعر


كنت في دبي في رمضان العام الماضي القريب وكان لي لقاء مع أحد السحرة...
قلت له بين معرض كلامي : أنا لا أعرف السحر، ولم أكن بين السحرة، لكني أعلم من كلام الله جل جلاله أنكم ضعفاء، وأنكم تريدون مالا تدركون من الله سبحانه وتعالى، فلن تضروا إلا من أذن الله سبحانه وتعالى.
قال: نعم.
فقلت له: الله سبحانه وتعالى يقول: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) البقرة: ١٠٢
فقلت له: هل تذكر شيء من هذا حصل معك؟.
قال: نعم، قال: كنت في يوم من الأيام أمام الناس واستعرض، ومعي خناجر، واحد في اليمين، وواحد في اليسار، أستعرض بأن أغرس تلك الخناجر في بطني، وفي جنبي، فلا أؤذى، والناس منبهرة، ومنشدة، كيف أن هذا يستطيع أن يطعن نفسه، وما يحصل عنده شيء؟!.
قال: بينما كانت الشياطين كالدرع في صدري، فكنت أضرب، ولا أؤذى (سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) الأعراف: ١١٦
يقول: بينما كنت في نشوة الفرح بين الناس، أغرس هذه السكاكين أمام هؤلاء الضعفاء الذين قد قلّ الإيمان في صدورهم...
يقول: بينما أنا كذلك فإذا أنا بشاب في العشرين من عمره قد وضع السواك في فمه عليه سيما النبي صلى الله عليه وسلم، ثوبه، لحيته، سكينته، سمته.
يقول: دخل فرميت بصري، ومازلت أواصل، والسكاكين في طريقها إلى بطني...
إذا بذاك ينزع السواك من فمه ثم يحرك تلك الشفاه ثم قال: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) البقرة: ٢٥٥
يقول: ما إن نطق بتلك الآية - إذ والله - وأنا في طريقي حتى أغرس تلك السكاكين أمام الناس، تناثرت الشياطين، فما استقرت السكاكين إلا في جنبي، وعلى أثرها (3) أشهر في المستشفى.
وآلآم، وعمليات.
يقول: فجاءني الشياطين في أول يوم، فكان مني العتاب: كيف تتركوني؟.
قالوا: والله لو رأيت يوم أن دخل ذلك الشاب، ونطق بآية الكرسي طُردنا من المدينة كلها.
لكن من الذي يذكر وأنت ممتلئ قلبك خوف منه ورجاء له ومعرفة به سبحانه وخشية قال (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا) الإسراء: ٤٦
يقول: فعلى إثرها جلست أنا والشياطين نهدد، ونتوعد، ونزمجر: كيف نؤذي ذاك الشاب؟.
فكان مما قلت للشياطين: أنا لا أريد من اليوم أعمال تعملونها لي، ولا أريد سحر ما أريد في هذه الدنيا إلا هذا الشاب...
فاخذوا يتوعدنه...
فذاك شيطان يقول: والله لأخرج عينيه أمام والديه.
والثاني يقول: سوف أفجر الدماء في عروقه.
والثالث: يهدد.
والرابع: يهدد.
يقول: فطمأنوني، واستكنت، واطمأننت أنهم سينتقمون لي.
وفي كل يوم يذهبون ثم يرجعون، ويذهبون ثم يرجعون.
بشروا ما الخبر؟.
قالوا: ما قدرنا... كل يوم بهالحال.
والله، وأنا أنظر لعينيه تلمعان بالدمع، وهو يتكلم يقول: يرجعون لي كل يوم وأكلمهم كيف؟.
ويتوعدون: أبشر.
يقول: فذللت للشيطان، وفعلت أفعال لم أكن لأفعلها... كلّها أريد مدد من الشياطين حتى يؤذون ذاك الشاب الصغير...
أعرف بيته... يقول: وحتى وصل الأمر بي... حتى أخذت شيء من ملابسه... حتى أتمكن منه.
يقول: وفوجئت أن الشياطين تأتي وتقول: خلاص لن نعدك بعد اليوم... ما نقدر عليه.
(إن عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ وكفى بربك وكيلاً) الإسراء: ٦٥
ثم طلعت من المستشفى، وقعدت (3) سنوات.
وأنا في كل يوم أرسل له شياطين، ويرجعون صفر الأيدي لا يمكنهم الله سبحانه وتعالى منه.
ما الذي كان يعمل؟.
قال: الشياطين تأتيني تقول: هذا الرجل لا يفوّت صلاته... والله قالها بلسانه.
قال: الصلاة نجاة.
قلت لنفسي: نعم والله نجاة!.
قد قالها محمد عليه الصلاة والسلام قبلك أيها الساحر قد قالها: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله).
(إنه ليس له سلطان)... شياطين الدنيا كلها ما تقدر (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)النحل: ٩٩
فسبحان الله حينما قال: الصلاة نجاه.
أخذتها من قلبه، نعم والله الصلاة نجاة.
لكن... أي صلاة التي تنجيك من السحرة والمشعوذين ومن شياطين الدنيا كلها؟.
(ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون) يونس: ٦٢ - ٦٣

نقلته لكم حرفياً من الشريط القيم (صلاتي نجاتي) للشيخ عبدالمحسن الأحمد - جزاه الله خيراً.



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صغير بس خبير
مشرف
مشرف



ذكر عدد المساهمات : 460
نقاط : 626
السٌّمعَة : 0
المزاج : جيد جدا

قصص واقعية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص واقعية   قصص واقعية Emptyالخميس يونيو 24, 2010 12:07 pm

أرغموني على الزواج به فأصبت بالعمى



زينب السنديان


عرفتها في أحد دور تحفيظ القرآن الكريم .. امرأة كفيفة .. كنا نتعجب من حرصها على الحضور والحفظ والمواظبة على ذلك .. وما هي إلا سنوات قليلة حتى أتمت حفظ المصحف كاملاً..

سألتها ذات مرة عن العمى الذي في بصرها وهل هو منذ أن ولدت؟
فأجابت قائلة: كلا يا بنيتي بل إن لي قصة مع ذلك ..

فقلت لها: وما تلك يا خالة؟

قالت: عندما كنت في الخامسة عشر من عمري خطبت لابن عمي فأحببته حباً شديداً وتعلقت به تعلقاً عميقاً وما هي إلا برهة يسيرة من الزمن على ذلك حتى كرهته وكرهت كل شيء يتعلق به وما كنت أطيق ذكره ومنظره إلا أن أهلي أرغموني على الزواج به بشتى الوسائل وكانوا يستخدمون ألوان التعذيب في إكراهي عليه حتى الضرب ما سلمت منه .. وفي أثناء ذلك أصبت بوعكة صحية ذهبت على إثرها للمستشفى وبعدما كشف الطبيب على حالتي المتردية قام بإعطائي بعض الأدوية لتخفيف ما أنا فيه .. وكانت أمي – رحمها الله- هي التي تقوم بإعطائي الأدوية وجهلاً منها كانت تعطيني الأدوية خلاف الوصفة الطبية التي كتبها الطبيب لي بعدها أصبت بغيبوبة ستة أيام أفقت منها وأنا بحمد الله بخير إلا أني لا أبصر شيئاً أفتح عيني أحاول النظر بهما إلا أني لا أرى شيئاً!!!
تفاجأ أهلي بذلك وصدمت أمي وأهلي جميعاً صدمة عنيفة وندموا أشد الندم وقاموا بالبحث عن علاج لي إلا أنهم ما وجدوا شيئاً داخل بلدتنا آنذاك فقام بعض الأطباء بإرشاد أهلي للذهاب إلى البلدة الفلانية فلعلهم يجدون فيها علاجاً مجدياً..
قام أهلي ببيع جميع ممتلكاتهم في سبيل الوصول إلى تلك البلدة التي أرشدنا الطبيب للذهاب إليها والبحث عن علاج لعيني اللتين فقدتهما وقمنا بالسفر إلى تلك البلدة وما أن وصلنا إلى الطبيب المعروف هناك وتم الكشف على عيني حتى أبدى يأسه من شفائهما وقال: إن عروق العين قد يبست وما عاد فيها أمل لأن تبصر ..
عدنا إلى بلدتنا بعدما فقدنا الأمل في الشفاء لقد شعر أهلي بالخيبة والأسى وأصبحوا يعضون أصابع الندم ولات ساعة المندم .. حاولوا بحثوا يئسوا .. إلا أن البحث أعياهم فلم يجدوا شيئاً ولم يتمكنوا من الوصول إلى علاج ناجح لي ...
بقيت في بيت أهلي كسيرة حسيرة حبيسة جدران البيت المتهاوي لا أرى شيئاً ولا أبصر أحداً حتى يسر الله لي الإتيان إلى هذا البلد المعطاء والتحقت بدار لتحفيظ القرآن والحمد لله تمكنت من حفظ القرآن كاملاً ..

وأين ابن عمك؟؟ ألم يسأل عنك؟ ألم يتم زواجك به؟
ابن عمي تزوج من فتاة أخرى ولديه منها الآن أبناء وبنات وأحفاد أيضاً..

وأنت ألم تتزوجي بعد؟
لم أتزوج إلا من سنتين من رجل فقير مستور الحال والحمد لله على كل حال ..

أخيراً .. بعدما عشت في خضم هضم هذه المأساة توجد رسالة تودين أن توجهينها إلى أهالي الفتيات اللاتي يرغمونهن على الزواج بمن لا يرغبن؟
نصيحتي لكل أب وأم أن يتركوا لفتياتهم حرية اختيار من يرغبن الزواج به طبعاً في حدود التفاهم والنقاش فيما بينهم وألا تنفرد الفتاة برأيها وتستبد رغبتها دون أن يكون هناك نصح وتوجيه من الأهل كما أتمنى أن تزال النعرات القبلية والتعصب والتشدد من قبل الأهالي في فرض شخص معين على ابنتهم ..
وعلى الفتاة أيضاً أن تحرص على إرضاء أهلها وعدم فرض رأيها عليهم وتجاهلها لإرشادهم وتوجيههم ...


**
المصدر: مجلة حياة العدد (58) صفر 1426هـ



تحرير: حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صغير بس خبير
مشرف
مشرف



ذكر عدد المساهمات : 460
نقاط : 626
السٌّمعَة : 0
المزاج : جيد جدا

قصص واقعية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص واقعية   قصص واقعية Emptyالخميس يونيو 24, 2010 12:10 pm

سلسلة { اعترافات فتاة } (4)






سلسلة { اعترافات فتاة } (1)
سلسلة { اعترافات فتاة } (2)
سلسلة { اعترافات فتاة } (3)


- 23 -
وماذا لو كنا سبع بنات ؟


- ما شاء الله.. سبع بنات؟!!

لا أعرف لماذا كان وجهي يحمر خجلاً وأرد بحياء وبصوت أقرب للهمس..
نعم..

يا حلييييييييييلكم..

كنت أشعر أن نظرات زميلاتي وصديقاتي حين يعرفن عددنا تتجاوز الاستغراب نحو شيء من الاستطراف أو الاستهزاء.. رغم أني أحاول أن أقنعهم أن وضعنا عادي ولا غرابة فيه..

وكان السؤال الجارح الآخر..
- غريبة ما يتزوج أبوك على أمك..؟!

وأحاول أن أقنعهم مرة أخرى أن أبي يحبنا كثيراً وقد نسي الآن موضوع الولد.. ولم يعد يرغب بإنجاب المزيد..
لكن نظراتهم وأسئلتهم السخيفة أو تلميحاتهم نادراً ما تتوقف..

* * *

حين نستعد للذهاب لزواج أو لمناسبة اجتماعية كبيرة فإني أشعر بحرج كبير من الذهاب مع أخواتي.. فمنظرنا يثير نظرات الآخرين كثيراً.. كما يثير شفقتهم واستعطافهم المزعوم علينا..

أجلس على الطاولة محفوفة بأخواتي من مختلف الأعمار.. تمر ابنة عمي مها.. تسلم مع ابتسامة استهزاء..
ما شاء الله كالعادة!.. لوحدكم تملؤون طاولة كاملة..!

كم أكره أسلوبها النزق هذا.. تعاملنا بدونية وكأننا مخلوقات مختلفة.. وكأنها تعتقد أننا سعيدات بوضعنا هذا..

نضطر لمراقبة سلوكنا وتصرفاتنا كثيراً.. يجب ألا نسير معاً ولا نقف معاً وحين تذهب أمي لمكان ما علينا ألا نتبعها جميعاً فنبدو كقطار طريف.. بل نقوم على فترات زمنية متباعدة..

كنت أشعر بأخواتي كقيد يخنقني ويضطرني لأن أشعر بشيء من الدونية والحرج أمام الآخرين..
إنهن بريئات لا ذنب لهن.. لكني بت أشعر بشيء من المقت لهن لما يضعنه على كاهلي من ثقل وشعور بالخجل..

أقنعت أمي أن نضع لنا دوراً للذهاب لبعض الزيارات العائلية حتى لا نثقل كاهل من نزورهم أو نشعرهم بكثرتنا.. وجعلني هذا الأمر أقل حرجاً أمام الآخرين.. لكنه لم ينه مشكلتي التي تزداد كلما كبرت وأصبحت أكثر حساسية من نظرات الآخرين وتلميحاتهم..

بطريقة ما استطاعت نظرة مجتمعي الذي يحيطني أن تجعلني أشعر بالاكتئاب وعدم الرغبة في الخروج.. كنت أنظر لصديقاتي وطريقة حديثهن عن حياتهن فأشعر بالغبطة..
كل واحدة تتحدث عن أمها وكأنها وحيدتها.. خرجت مع أمي.. قلت لأمي.. نفكر أنا وأمي في موديل فستاني..
وهكذا..
وإن حصل كانت هناك أخت أو أختان أو بالكثير ثلاثة.. وهما أكبر بكثير أو أصغر بكثير..
لكن بالنسبة لي فالأمر مختلف..
أنا محاطة بستة أخوات يشاركنني كل شيء.. بدءاً من رعاية والديّ..
فأنا لم أحصل يوماً على انتباه أو اهتمام والديّ لذاتي.. دائماً أسمع الخطاب الجماعي.. أنتن.. سنأخذكن.. سنذهب بكن.. فنحن بالفعل قبيلة أو جيش نسائي كما يطيب لمها ابنة عمي أن ترمي بتلميحاتها السخيفة..

إذا أردت شراء شيء لي.. فيجب أن يتم شراء مثله للجميع.. وإذا أردت الذهاب لمطعم راقٍ مع والديّ فعلينا أن نذهب جميعاً بدءاً بي وانتهاء بجود ذات الأربعة أعوام.. وهنا يصبح المكوث في المطعم مستحيلاً في ظل القرقعة والإزعاج والبكاء والمشاجرات اللافتة للنظر..

أما حين ذهبنا للعمرة العام الماضي فقد كان منظرنا لافتاً بصدق ونحن نسير خلف والدي كالطابور..

كنت أتمنى لو يصبح لي أخ مثل غيري.. أخ أرسله للبقالة.. أو أجعله يخرج ليستلم طلبية التوصيل من المطعم.. يحدثني عن مدرسته ومشاغباته..
بل إنني أتمنى أحياناً أن يكون لي أخ ليراقب تصرفاتي وعباءتي فأضحك في سري عليه وأنا أطيعه بلذة عجيبة..
لكن هذا الأخ عبثاً لم يأتِ.. وبقي حبيس الأحلام كأشياء أخرى كثيرة..

كنت وثلاث من أخواتي قد وصلنا لسن الزواج.. لكن نصيبنا لم يأت بعد لأسباب لا يعلمها إلا الله..
لم يتقدم إلينا خاطب بصفات معقولة – ولا أقول ممتازة.. كانت أمي تنتظر اليوم الذي تزوجنا فيه وتشعرنا بالسعادة.. لكن شيئاً من ذلك لم يكن بيد أمي ولا أبي.. فهو بيد الله سبحانه وتعالى.
معظم القلة الذين تقدموا لي كانوا إما كباراً في السن أو لهم سوابق أخلاقية أو أنهم لا يصلون.. أو ليس لديهم عمل ثابت كعبد الله ابن عمي فكيف أغامر بحياتي معه؟
لكن زوجة عمي لم تتركنا في حالنا بعد أن رفضنا بأدب شديد ولدها الذي لم يكن عيبه الوحيد أنه لا يعمل.. ولا أنه لم يكمل دراسته، بل هو يدخن ومحاط برفقة السوء هداه الله.. فكيف تريدني هداها الله أن أوافق على ابنها هذا؟
لقد اتفقنا أنا وأمي وأبي على أنه لا يصلح للزواج.. وبقائي مكرمة في بيت أهلي أفضل من أغامر لأعود مطلقة أو أحمل في أحضاني طفلاً بريئاً لا ذنب له..
لكن زوجة عمي لم تقتنع بكل كلامنا وبدأت حرباً شعواء علينا.. أفرغت خلالها كل ما في جعبتها من عبارات حادة وجارحة بحقنا.. قالت إن أمي عليها أن تبدأ في تسويق هؤلاء البنات قبل أن يتجمعن على قلبها – كما تقول.. فهناك نصف دستة من البنات ينتظرن دورهن خلفي!!.. وقالت أن من لديه مثل هذا العدد من البنات عليه ألا يتشدد في شروط الزواج بل يعطيهن لأول طارق!
جرحتني هذه الكلمات أكثر مما فعلت مع أبي أو أمي.. ربما لأن لديهم شيئاً من الجلد وقوة التحمل.. أما أنا فلم تساعدني حساسيتي المفرطة على تحمل هذا الكلام.. وأخذت أبكي ليالٍ طويلة..

وكانت هذه الهجمة سبباً في أن أفكر في وضعي – أو وضعنا- جيداً.. وأعيد حساباتي جيداً.. لماذا علينا أن نتحمل كل هذه الإهانات ورأسنا منكس؟

نظرت لنفسي فإذا أنا فتاة خلوقة ولله الحمد.. مستقيمة بإذن الله.. متفوقة في دراستي.. محبوبة ممن حولي.. وكذلك أخواتي فهن جميعهن صالحات مؤدبات خلوقات.. يثرن إعجاب الجميع بنشاطهن وتفوقهن..
أي فخر هذا لأبي وأمي؟
لماذا نترك للآخرين الفرصة ليشعرونا بالنقص.. ونحن ربما أفضل منهم بكثير..

فكرت في بيت عمي.. ماذا لديهم ليشعرونا بالدونية؟
ثلاثة أبناء فاشلين في دراستهم عابثين متخرجين من مقاهي الشيشة.. وثلاث بنات مرفهات متعجرفات.. لا يعرفن لاحترام الآخرين قيمة.. جل وقتهن يشغلنه بأحاديث هاتفية مشبوهة.. وتبادل أشرطة الأغاني مع صديقاتهن..
سبحان الله..
زوجة عمي نفسها.. لم تحظ يوماً ببر أحد من أبنائها أو بناتها أو اهتمامهم وكثيراً ما اشتكت من سوء أدبهم وتعاملهم معها.. فلماذا تحاول أن تظهرنا نحن بمظهر الأضعف والأقل.. ألأن الله شاء ألا يكون بيننا أخ ذكر؟ فقط لهذا؟ يا للتفكير السطحي السخيف؟

وكأن الله شاء أن تكون هذه المصيبة فرصة لأن أشكر الله على نعمته علينا وأن نكسر قيد الضعف الذي كان يحني رقابنا..

شعرت بعد جدال طويل مع نفسي أني أولد من جديد وأزيل عن نفسي بقايا عالقة من تفكيري السابق وأتخلص من تلك الخيوط اللزجة التي كانت تحيطني وتقيدني عن الكثير وتمنعني من أن أرفع رأسي أمام الآخرين..

لم أكن أصدق إن إنساناً يمكن أن يتغير بين ليلة وضحاها لكني تغيرت هكذا.. لم أعد أشعر بذلك النقص من نظرات الناس لأخواتي.. بل انقلب هذا الشعور إلى فخر حين أنظر لأخواتي بمظهرهن الجميل وحديثهن المثقف المهذب الرقيق.. وتذكرت أنه لم يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان كل نسله من البنات ولم يعش له ولد.. ويكفينا فخراً أننا نستر والديَّ عن النار لأنهما أحسنا تربيتنا بإذن الله..

استغربت أخواتي من التغير الذي طرأ علي فقد بدت الثقة في طريقة حديثي وتصرفاتي، وأنا التي كنت أزرع في نفوسهن الشعور بالنقص والدونية وأردد أمامهن دائماً أني أخجل من ظهورنا معاً وغير ذلك..

ربما ظهر هذا الشعور في داخلي كحاجة فطرية ماسة لمقاومة كل ذلك الهجوم من زوجة عمي وابنتها وغيرهن ممن يحاولن إهانتنا لإرضاء نفوسهن المريضة. لكنه كان شعوراً عارماً وقوياً وسرى في نفسي مثل نهر نبع فجأة في أعماق الصحراء.

أصبحت أشجع أخواتي على الظهور معاً ولا أجد في ذلك أدنى غضاضة، وأحاول أن أزرع فيهن الثقة بأنفسهن والحب والافتخار ببعضهن البعض، بدلاً من التقوقع حول ذاتنا ولوم بعضنا البعض على شيء قدره الله لنا..

وكلما نظرت لأسرتنا وتماسكها ومحبتها لبعضها البعض ورقيها الأخلاقي حمدت الله حمداً كثيراً.. لأن سعادة الإنسان تتبع من رضاه الداخلي وليس من نظرات الناس وأحاديثهم.. حتى لو كنا أكثر من سبع بنات..


**
مجلة حياة العدد (55) ذو القعدة 1425هـ



--------------------------------------------------------------------------------



- 24 -
ليلة طلاقي



وقفت طويلاً أمام الباب الذي طالما طرقته وفتحته.. لكن هذه المرة مختلفة.. مختلفة جداً..
نظرت إلى الساعة.. إنها الثانية عشرة إلا خمس دقائق ليلاً..
شعرت بالخوف.. والخجل من نفسي..
ماذا سأقول.. لأمي.. أبي.. يا ربي أعني..
حاولت أن أبتلع دموعي المالحة.. وأخذت نفساً طويلاً لأستطيع الحديث..
شعرت بالتردد والخوف الشديد مما أقدم عليه.. بل شعرت بالحزن على والديّ.. أشفقت عليهما وعلى نفسي..
نظرت خلفي لعلي أتراجع وأعود.. فإذا به قد ابتعد بسيارته ينتظرني أن أدخل بأسرع وقت ليغرب عن وجهي..
أمسكت مقبض حقيبتي جيداً.. وطرقت الجرس.. مرة أخرى طرقته ولا مجيب.. لابد أنهم نائمون..
يا ربي..
وبعد عدة دقائق.. فتح أخي الباب..
- ماذا هناك؟ خيراً إن شاء الله؟!
لم أعرف ماذا أقول.. هل أتصنع وأذكر أسباباً واهية أم أواجهه بالحقيقة..
- لا شيء.. غداً أخبركم بما حصل..
سكت أخي وهو مستغرب بينما مضيت لغرفتي أسحب حقيبتي.. وشيئاً من فتات نفسي المحطمة.. التفتُّ إليه..
- ششش!.. أرجوك لا توقظ أمي ولا أبي..
ودخلت غرفتي وأنا منهكة تماماً.. منهكة من الألم والخيبة..
نظرت إليها.. لأول مرة أرى غرفتي دافئة وآمنة بهذا الشكل..
كانت مرتبة نظيفة وكأنها تنتظرني لتحضنني..
أحكمت قفل الباب..
ورميت نفسي على سريري لأرتاح.. ولحظتها شعرت أني أدخل دوامة كبيرة..
كنت غير مصدقة لما حصل..
كانت الكلمة تتردد في ذهني كصدى من حلم مخيف وتدور بي بشدة.. (أنت طالق.. طالق..)..
حاولت أن أسترجع الأحداث لكنها كانت لا تصدق.. وكأنها مقطع من فيلم كرتوني خيالي.. لا يمكن..! قبل ثلاثة أشهر فقط.. كنت هنا.. الابنة المدللة.. نعم.. طفلة والديها.. لديها ألعاب وكراسة رسم وألوان كثيرة..
لمحت دفاتري الصغيرة على الرف ومذكراتي هنا وهناك.. وهذه الألعاب والتحف اللطيفة.. لا زالت موجودة..
كنت مجرد فتاة صغيرة بريئة.. لا تعرف عن عالم الكبار أشياء كثيرة..
والآن.. ماذا حدث؟ هل يمكن.. أنا مطلقة..؟! هكذا؟!
شعرت بألم في صدري.. في قلبي تماماً حين تخيلت الصدمة.. آآآآه.. كم هي مؤلمة..
أحتاج من أبكي بين يديه.. وأبكي وأبكي..
دفنت رأسي في وسادتي وبكيت حتى شعرت أن جسمي كله يرتعش من الألم..
وبعد أن ارتويت من الدموع.. بدأت أفكر بما آلمني أكثر..
كيف أواجه أهلي.. ماذا أقول لهم.. كيف أشرح لهم ما حصل وكيف صبرت عليه وعلى تصرفاته الطائشة منذ أول يوم؟.. كيف سأواجه نظرات الآخرين وفضولهم؟.. زميلاتي في الجامعة.. إنهن يعتقدن أني سعيدة تماماً في حياتي فكيف أخبرهن..
كيف أخبر أعمامي وخالاتي.. كيف أواجههم؟ بل كيف أواجه بنات أعمامي وأخوالي؟
يا ربي ثبتني.. يا رب..
لم أشعر بالحاجة الماسة لمن يحتويني ويمسح على رأسي بحنان كما احتجته ليلتها.. لمن أشكو؟ لمن ألجأ؟
بكيت طويلاً لكني وجدت أن البكاء يزيد ألمي ولا يخففه.. ففي كل نوبة بكاء طويلة كنت أشعر بآلامي تتجدد وجروحي تنزف أكثر.. وتظهر المزيد من المواقف المؤلمة أمام عيني.. لكني لم أكن أستطيع التوقف..
بكيت على حالي والذل الذي عانيته لأحافظ على زواجي.. وعلى حال أهلي الذين يترقبون السعادة في وجهي.. بكيت على طفولتي وحياتي التي تغيرت تماماً.. بكيت على الثمن الذي دفعته من شبابي وعمري.. وبكيت على الخناجر المسمومة التي غرسها النذل في قلبي الطاهر المحب.. وعلى كبريائي الذي أهنته من أجله كثيراً..
وكلما شعرت بالأسف على نفسي أكثر كلما بكيت أكثر..
ولوهلة تمنيت الموت..
نعم.. إنه أفضل حل للتخلص من هذا الموقف المؤلم..
تمنيت لو أموت لحظتها فأرتاح من هذا الهم.. وأريح أهلي.. ولعلي أغرس في قلبه بعض الألم فيشعر أنه السبب في موتي من شدة الحزن والقهر.. ويشعر أهله أيضاً بفداحة تعاملهم القاسي معي..
تحمست لهذه الفكرة..
وقررت أن أتوجه الآن لمصلاي وأدعو الله من كل قلبي أن يأخذ روحي الليلة..
اتجهت لحمامي في هدوء وتوضأت..
وحين عدت لغرفتي لمحت شبحاً في مرآتي.. نظرت إليه.. يا إلهي!! ما هذا.. إنها أنا!!
كان وجهي محمراً ومتورماً بشدة من البكاء.. عيناي حمراوان كالدم.. وحاجباي مرتفعان وغير مرتبان.. وأثر صفعته الأخيرة ترك زرقة على عظمة خدي.. شعري منكوش بشعر مخيف.. يا ربي.. أهذا أنا؟!
كنت أشبه الشيطان وإن لم أره!
استغفرت الله!.. ولم أعرف هل أضحك أم أبكي؟!
أمسكت المشط وسرحت شعري وربطته..
وشعرت بالحاجة لوضع شيء من عطر.. فتحت الدرج.. كان هناك زيت زهور اللافندر الذي أحبه.. وضعت شيئاً منه فأشعرني براحة واسترخاء.. يا سلام..
ضحكت في سري.. هذه حصوص التي أعرفها..!
نسيت أني كنت متوجهة لسجادتي..
ذهبت إليها.. ارتديت ثوب صلاتي.. وحين وقفت لأصلي أخذت أفكر..
هل أطلب من الله فعلاً أن يأخذ روحي؟!
أليس هذا عيباً.. أن أيأس وأقنط من الحياة بهذه السرعة.. وبسبب من؟ بسبب إنسان حقير لا يستحق شعرة من شعر رأسي الجاف؟!
سبحان الله.. لقد سمعت يوماً أن الروح ملك الله وليست ملكنا.. وعيب أن ندعو الله لأخذها وكأننا نطلب منه أن يسترد هبته وهديته سبحانه..
لكن طالما أنا هنا وفي مصلاي.. لم لا أطلب منه سبحانه أن يثبتني ويطمئن قلبي ويوفقني لما فيه خيري.. وأن يرزقني زوجاً خيراً من ذلك الزوج..
صليت ركعتين حاولت أن أخشع فيهما.. فشعرت بطمأنينة منعشة تروي قلبي وجوارحي وتغسل آلامي.. ما أجمل أن يشعر الإنسان أنه قريب من ربه.. أنه معه في كل مكان يسمع شكواه ويجيب دعاءه.. بقيت أناجي الله وأشكو له وأشكو من كل قلبي.. رجوته ودعوته بكل ما أريد.. وأنا هنا.. في غرفتي الصغيرة.. كنت موقنة أنه يسمعني وأنه سيجيب دعواي.. وأنه سينصرني ولو بعد حين لأني مظلومة.. فشعرت براحة.. الراحة المنبثقة من معرفتي بوجود أحد يقف معي ويساندني.. وأي أحد.. إنه الواحد الأحد.. القوي العزيز..

كنت كطفل ضائع وجد أباه في سوق مزدحم بعد أن كاد الظلام يحل وهو لا يكف عن البكاء..
(ولله المثل الأعلى).. كان هذا شعوري.. كنت خائفة وحيدة مرتبكة.. والآن.. كلا.. أنا مرتاحة واثقة بإذن الله..
حين انتهيت.. نظرت حولي.. أشرطتي الدينية.. كتيباتي.. منذ متى لم أطلع عليها؟ .. منذ زواجي.. نعم..
كم أشعر بشوق كبير لها..
أدركت حقاً أن الإنسان كلما ابتعد عن ربه كلما شعر بالضعف والوحدة مهما بدا عكس ذلك.. وكلما اقترب منه سبحانه كلما شعر بالقوة والثقة..

في الصباح كنت متماسكة تقريباً.. رويت لأهلي كل شيء بثبات.. لم أكن خائفة كثيراً.. حاولت ألا تهزني نبرة والدي الحزينة وهو يردد (لا حول ولا قوة إلا بالله).. ولا دموع أمي وهي تسمع كيف أصف لها الضرب الذي كنت أتعرض له على يده.. تماسكت بقوة حتى لا أبكي ولا تفلت مني بعض الدموع.. وحين انتهيت ضغطت على نفسي لأبتسم وأنا أقنعهم أن هذا قدر الله المكتوب لي والحمد لله أني خرجت من التجربة دون حمل وأنه طلقني من تلقاء نفسه دون أن يتعبنا معه في المحاكم.. فالحمد لله..

كانت التجربة قاسية جداً لي.. لكني اعتبرتها أقوى اختبار مر علي في حياتي.. وأرجو من الله أن أكون قد نجحت في اجتيازه.. فقد استطعت مواجهة زميلاتي وصديقاتي بوجه باسم راضٍ وأنا أحمد الله.. كما تحملت تصرفات أولئك اللاتي أثبتن رداءة معادنهن حين تركن صحبتي.. واستطعت مواجهة قريباتي وصد أسئلتهن الفضولية بكل صرامة وأدب في نفس الوقت..
أصبحت أهتم بمظهري وصحتي، وحتى ثقتي بنفسي لا أعرف كيف ازدادت بفضل الله..
واستمريت أحصد النجاح في حياتي ودراستي ولله الحمد.. والآن ها أنا ذا معيدة في كليتي.. وأحضر للدراسات العليا.. محبوبة من كل من حولي ولله الحمد.. والأهم أني محافظة على علاقتي بربي دائماً بإذن الله.. لأني أعرف يقيناً أنه هو مصدر قوتي وثباتي.. وسر سعادتي..

------------------

نعم ..
مطلقة أنا !

قلت لي محدثتي بعد أن رأتني أضحك وأمازحها: (أو تبتسمين في يوم طلاقك؟!) مستنكرة عليَّ ذلك الجرم.. الابتسام.. فإليها وإلى كل من حار هذا السؤال في دواخلها.. أقول:

وتسألني محدثتي.. وفي قسماتها لحن
الدياجي..
وبريق سيف منصرم..
ما كل ذاك الابتسام؟! وكل ذاك الحسن؟ والثوب الجزل؟!
عجبي يبدد وحشتي..!
وكأنك في يوم عرس!!
أو تضحكين بملء فيك.!
وتقفزين بلا وجل؟!..
فأجبتها:
هوناً عليك حبيبتي.. أتريدني بسواد ثوب أنكفئ في حجرتي؟
بتأوه.. وبأدمع.. أبكي القضاء.. وأقول في أنشودة:
(سأموت قهراً لا محالة)!
هذي مراسيم الشقاء وحشرجاته..
وهذه أدمعي؟!
أنا يا ابنة الأنثى كيان ماثل..
لا يبتغي التجريح والتلميح والرمي..
ما ساقني للجرح حب تسلط..
ولا رغبة في حب ذل تعتلي..
لما رأيت الحسن فارق مهجتي.. ولوحت لي ببسمتي..
مع الغروب سنلتقي...!
آثرتها وبقيت دهراً أرتقب في وحدتي.. أين الغروب؟!..
وأين معه بسمتي؟!
مرَّ الفراق يشوبه عندي أغاريد الربيع.. لينثني سم الأعاصير من دمي..
نعم معذبتي..
مطلقة أنا.. ولي من العمر.. عشرون عاماً.. ما أجملي!!
أقولها بكل فخر.. وابتغي في كربها بركات ربي!
لأنني أنا الأنثى..
أنا المثلى... رغم الأعاصير العجاف..
لا أنحني..
سأظل أرقب من بعيد.. إشراق فجري من جديد..
وأقول في مقطوعة:
رغم الألم.. يبقى الأمل..
يزهر أفانين المقل..
ويقيم للأحلام عمراً.. مشرقاً لا ينتهي..
نعم.. مطلقة أنا..
وسأبتسم..

إيمان الفهيد

**
مجلة حياة العدد (56) ذو الحجة 1425هـ




--------------------------------------------------------------------------------


- 25 -
لأني أحبك أنت



إلى طالبة غالية
أحبها جدا في الله..
أرجو الدعاء لها بالثبات..


(كلنا سنحاسب عن أعمالنا.. أعمالنا فقط.. لا أحد سيغني عنك أو يساعدك يومها.. لا أمك.. ولا أبوك.. ولا صديقتك.. الكل سيهرب منك.. تخيلي.. كلهم سيتركونك ويفرون منك!! أحب الناس إليك سيتركونك ويهربون..
ولن ينفعك سوى عملك الصالح فقط.. عملك أنت..)..

* * *

كنت أستمع لأبلة حصة معلمة التفسير وهي تشرح لنا بطريقتها المبدعة قوله تعالى: (يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه. وفصيلته التي تؤويه) وأنا متأثرة بشدة حتى كادت الدموع تنساب من عيني..
فقد كنت أفكر في نفسي وحالي..
أشعر أن الآية تخاطبني أنا.. نعم..
إنني أجاملهم.. أسايرهم.. أو أخاف منهم.. أخجل كثيراً من تعليقاتهم..
رغم أنهم لن ينفعوني في ذلك اليوم العظيم..
إنهم يحيطون بي.. وهم أقرب الناس إلي..
أبحث جاهدة عمن يساندني.. يعينني.. يثبتني.. لكن دون جدوى..
بل على العكس تماماً.. يسحبوني بشدة نحو عالمهم.. يقنعوني.. يضغطون علي..
فأضعف.. وأتراجع.. والألم يقتلني..
لكن هذه المرة سأتخذ قراراً بإذن الله..

* * *

حين أنظر لصوري مع أمي في الصغر.. أجد طفلة لا تحتوي شيئاً مني..
خصلات شقراء ناعمة مرتبة بتسريحة متقنة جداً.. معطف غاية في الأناقة من الفرو.. وضحكة تبدو ممتعة..
في معظم الصور لم تكن أمي تتركني على الأرض.. كانت دائماً تحملني رغم أن عمري تجاوز الخمس سنوات..
تحملني على كتفها.. تحضنني.. تقبلني.. تداعبني.. أنظر في ملامحها.. فأشعر بغصة..
دائماً تنظر إلي.. تنتظر مني أية كلمة أو ابتسامة لتفرح بها..
كم أحتاجها.. وأحتاج حبها وحنانها..
لكن شيئاً ما في داخلي.. يرفضها.. يبغضها على استحياء لأنها تركتني ولم تقاوم كثيراً من أجلي..
لماذا يا أمي؟ لماذا تركتيني بسهولة؟ لم نسيتيني كل هذه السنوات؟ ولم تسألي عني وتركتيني أكبر وأتجاوز أقسى سنوات الطفولة وأكثرها ألماً بعيداً عنك؟

* * *

تناديني ماما نجوى من بعيد..
جوجو.. هيا.. العشاء ينتظرك..
لا أعرف لماذا شعرت فجأة بالنفور من صوتها!!..
أصبحت – لا أعرف كيف- أنفر منها بعد أن عشت معها سنوات طويلة..
أشعر أنهم كلهم يخنقونني.. يقتلون شخصيتي.. يفرضون علي حياة لا أريدها ولا أحبها..
سرت بتثاقل نحو طاولة الطعام..
لينا وتالا –ابنتاها- سبقتاني للمائدة..
نظرت إليهما.. يرتديان نفس ملابسهما التي تعودا عليها في البيت.. شورت وقميص بلا أكمام..
كل شيء يبدو عادياً للجميع..
أبي الهاديء دائماً يجلس بصمت..
لم أشعر برغبة في تناول الطعام.. أخذت أنظر لهم جميعاً دون أن يشعروا.. أنظر بتفحص..
ماما نجوى تبدو فعلاً كامرأة غريبة.. ملابسها.. شعرها المصبوغ.. كلامها.. والأدهى عاداتها وأفكارها..
تالا..!
....
تالا!! ألا تسمعين؟! كم مرة ينبغي أن أخبرك أن تغلقي الـ Headphone أثناء تناول الطعام؟
ترد تالا بالانجليزية..
أوه ماما.. أرجوك.. إنها تشعرني بالسعادة.. ماذا يضر أن أسمع أثناء الأكل؟
يضر أنك لا تسمعيننا ولا تشاركيننا الحديث.. نريدك معنا يا تالا..
أوف!.. هاه..
وألقت سماعات جهاز التسجيل الموصلة بأذنيها على الطاولة بغضب وقلة احترام..
شعرت بغربة حقيقية في هذه البيئة.. لكني ابتلعت ألمي على مضض.. فكل شيء سيسير هكذا شئت أم أبيت..

* * *

تزوج أبي أولاً بامرأة حين كان عمري ست سنوات.. لكنها لم تبقَ معنا سوى سنتين فقط..
كانت ترفض أن تبقى معي حين أخاف وأحتاجها في الليل.. وذات مرة ضربتني حين بللت سريري بعد ليلة كانت فيها حرارتي مرتفعة.. فغضب عليها أبي كثيراً.. وبعدها تركت البيت ولم أرها بعد ذلك..
وبعد سنتين تزوج أبي بماما نجوى..
وهي إنسانة طيبة.. ولديها ابنتان في سني تقريباً.. لكنها غريبة جداً..
فهي متحررة تماماً.. لباسها.. حديثها.. أفكارها.. كل شيء..
متحررة حد الانسلاخ من هويتها.. دينها.. أعرافها..
لكني لم أكن أكرهها.. ولا أحبها..
لا أكرهها لأنها لم تؤذني يوماً.. ولم تجرحني أو تقصّر قي معاملتي..
ولا أحبها لأني لا أشعر بأي حب لها، ولا لأسلوبها كله في الحياة.. كنت أشعر بالغربة معها..
أما ابنتاها فقد كانت علاقتي بهما سطحية جداً.. لم أكن أحب مشاركتهما احتفالات أعياد ميلادهما.. ولا أحاديثهما التافهة حول (أصدقائهما) في الإنترنت.. ولا سباقهما المحموم لجمع صور ريكي مارتن وتعليقها على جدران غرفتهما..
ورغم أن أمي (أجنبية).. إلا أني لا أتحدث بالانجليزية قدرهما في البيت.. ولا أشعر بانتماء لتلك الثقافة قدر ما يشعران به. وأحياناً أرحمهما.. لأنهما أبعد ما يكونان عن سعادة الروح الحقة..

* * *

لم يكن أبي أبداً جزءاً هاماً من حياتي.. وهو خارج الصورة دائماً..
إنه إنسان طيب وهادئ.. ولا يمكن أن يؤذي نملة.. لكنه مشغول دائماً..
لا يتكلم إلا نادراً.. ولا يهتم بأي شيء في المنزل.. لا يهتم أبداً..
أحس أنه يرحمني ويعطف علي.. لكني لم أشعر يوماً بحبه..
وتنتابني أحياناً فكرة أنه يعتبرني من أخطاء حياته التي يكفر عنها..
إنني مثل ورم صغير مؤلم في حياته.. أشعره بالألم كلما نظر إلى عيني.. فيبتعد عن مواجهتي..

* * *

أشد.. أشد ما يمكن أن يمر على الإنسان من لحظات ألم.. هي تلك التي يمر بها وهو يعلم أن لا أحد ممن حوله .. لا أحد تماماً.. يحس به أو يسانده فيها..
وأشدها على الإطلاق.. التي يشعر فيها أنه لا يعرف إلى أين يهرب من هؤلاء الأقرب إليه..
لا أستطيع أبداً أن أصف شعوري..
كلا.. لا أستطيع.. أن أصف كيف يمكن أن تستلقي في سريرك.. تبحثين عمن يمكن أن يسندك بكلمة.. فلا تجدين سوى الجدران الصماء.. وبرد الوحدة الأليم ينهش قلبك..
لا أب.. لا أم.. لا أحد حولك يدفعك نحو الخير.. أو حتى يساعدك عليه..
أفكر..
كيف.. كيف أستطيع أن أستمر في ارتداء عباءتي المحتشمة رغم غمزاتهم وضحكاتهم؟ كيف أرفض الجلوس معهم أمام قنوات الأغاني التي يفضلنها؟ كيف أرفض أن أجلس سافرة مع أخوالهم وأبناء أخوالهم؟
من أين لي بالثبات يا ربي؟
أبكي.. أريد أمي..
كلا.. أمي لن تنفعني..
أريد.. أريد عونك يا ربي.. يا حبيبي..
لأجلك أنت فقط.. لأني أحبك أنت سأقاوم..
ولأجل رضاك سأتألم..
لأني أعلم أنني على حق.. وهم على باطل.. وهم جميعاً لن ينفعوني يوم الفزع الأكبر..
فألهمني الثبات..
أقوم لأصلي الفجر.. أحاول أن أحصل على لحظة سكينة وخشوع..
وأدعو الله أن يثبت قلبي.. وأن يهديهم جميعاً.. رغم صوت موسيقى الروك القادمة من غرفة تالا..


**
مجلة حياة العدد (57) محرم 1426هـ





--------------------------------------------------------------------------------


- 26 -
وجه يلسع .. وورقة اختبار




- خلاص يا بنات؟.. غداً الاختبار.. ادرسوا جيداً.. من لا تحصل على درجة عالية الآن لن تستطيع الحصول على معدل جيد فيما بعد.. عشرون درجة على هذا الاختبار.. انتبهوا!!

بعد هذه التهديدات المرعبة من أبله حصة.. شعرت بقشعريرة تسري في جسدي وخوف بارد يشل أطرافي.. حتى معدتي انقبضت بقوة..
كم أكره الاختبارات.. كم أكرهها..
حين عدت للبيت.. كنت أشعر باكتئاب وضيق شديد..
توجهت نحو سريري بسرعة واستلقيت عليه قبل حتى أن أخلع عباءتي..
دفنت رأسي في الوسادة وأنا أكاد أبكي..
أريد أن أهرب..
بكل صدق.. أريد أن أهرب.. واختبئ بعيداً عن الاختبارات وما يتصل بها..
لا أريد أن أختبر.. لا أريد الخوف.. لا أريد قلق انتظار النتيجة..
كنت أشعر بالغثيان حين دخلت والدتي تدعوني للغداء.. لكن هذا كان آخر ما أفكر فيه..
- لا أريد شيئاً أرجوك يا أمي..
نظرت إلي أمي بحزن فقد عرفت أن هناك اختباراً في الأجواء..
- لا يصح هذا يا بنيتي.. إلى متى تشعرين بالرعب والخوف من الاختبارات.. لقد كبرت..
ليس هناك من يفهمني..
بكيت كثيراً وأنا أقول لهم.. أن خوفي من الاختبارات أمر خارج عن يدي.. شيء لا دخل لي فيه.. مرض قاتل أدعو الله أن يشفيني منه.. لكنهم يعتقدون أني أتحكم بحالتي ونفسيتي..
- أمي.. أرجوك.. أرجوك.. أريد أن أبقى لوحدي..
تنهدت أمي وأغلقت الباب ثم خرجت..

* * *

تعود بي ذاكرة سرابية لمشهد قديم تفوح منه رائحة الطباشير..
فصل صغير.. مقاعد متراصة.. طاولات مهترئة امتلأت بالرسومات وببعض قطع العلكة المتيبسة..
- يا الله يا بنات.. نتائج الاختبار..
تصرخ أبله منيرة بحدة على هذه الكائنات الغضة التي خرجت للتو من أحضان أمهاتها..
ثم تبدأ في سرد الدرجات مع التعليقات المناسبة
- في نظرها..
- ندى عبد المحسن..
وتنظر إلي نظرات أقرب ما تكون لنظرات النمر حين يلمح فريسته ويراقبها.. هكذا أتذكر.. ثم تهز فجأة رأسها باستهزاء..
- يا سلام يا ندى.. يا سلام على الدرجة الحلوة..
- تعالي هنا يا ندى..
من شدة خوفي منها مكثت في مكاني.. لم أملك القدرة على التحرك..
فزأرت بقوة..
- أقول تعالي ما تسمعين.. يا (حيوا..)..
كنت أرتعش وأنا أقوم من مكاني.. وكأني أتجه لمصيري المحتوم..
أوقفتني قرب السبورة أمام التلميذات وهن ما بين المتهامسات والضاحكات أو الخائفات من مصير مشابه لمصيري..
في تلك اللحظة أتذكر أني كنت أريد أمي.. أريدها بأية وسيلة.. أريد أن أهرب من الفصل إليها..
أخرجت المعلمة معي ثلاث طالبات.. ثم أخذتنا أمامها كالخراف الصغيرة نحو العقاب..
وكان العقاب.. هو..
أن تدور بنا على كل فصول المدرسة.. لتريهم أكسل ثلاث طالبات في اختبار الإملاء..
كان مشهداً مخزياً.. ونحن ندور منكسي الرؤوس خلفها وهي تشرح لكل فصل خيبتنا وفشلنا وتستهزئ بنا..
مرت على فصل بنات جيراننا.. وعلى فصل ابنة خالتي مشاعل.. وعلى فصل معلمتي الحبيبة نورة.. وكنت في كل مرة أشعر بخجل عظيم يكاد يذيبني.. لكني لا أستطيع الفرار أو الهرب..
كانت دموعي تنساب بخجل على وجهي المحمر.. وأنا أشهق بصمت.. وحزام مريولي يسحب خلفي.. وفجأة شعرت بالحاجة للذهاب للحمام..
قلت ذلك بخوف لأبله منيرة.. لكنها غضبت ورفضت.. كانت تعتقد أني أريد الهرب من مواجهة بقية الفصول..
تحملت قليلاً.. رغم السير الطويل في المدرسة والصعود بالدرج ثم النزول منه.. لكن.. صغر سني.. لم يساعدني أن أتحمل أكثر..
بكيت.. أرجوك معلمة منيرة.. أرجوك.. أريد الحمام..
لكنها رفضت وهي تسحبني بقوة من يدي..
وفي لحظة لا أنساها.. لم أستطع التماسك فيها أكثر..
وأحسست بنفسي فيها صغيرة جداً.. ومهانة لأقصى حد.. ومحتاجة لأمي أكثر من أي وقت آخر..
أحسست بالخجل يبلل ملابسي..
ثم.. لا أتذكر سوى الصراخ.. و.. أني كنت أريد أن أهرب..

* * *

أشعر بعطف شديد على تلك الطفلة البريئة التي لم تتجاوز السابعة..
التي تعتد بنفسها وبترتيب مريولها وبعطرها الطفولي كل صباح.. وتحرص على تسريحة مرتبة أمام زميلاتها..
أشفقت عليها بصدق من ذلك اليوم الذي غرقت فيها في أوحال الإهانة وتحطيم الذات أمام الجميع.. جميع من كانت تحبهم وتسعى لأن تكون الأفضل أمامهم..

قبل كل اختبار.. أصبحت أشعر بخوف برائحة الطباشير وطعم الدموع.. وأسمع أصوات صراخ من بعيد..
رعب قاتل يخنقني.. لا أعرف كيف أهرب منه.. ولا إلى أين..
ويزيد طيني بلة.. كلام أمي وأبي عن طموحهما بي..
تتباهى أمي أمام زوجة خالي..
- ندى.. ستدخل الطب بإذن الله..
- ما شاء الله..
- نعم.. وستصبح أول دكتورة في العائلة..
- لكن يا أمي..
أقاطعها بخجل..
- لكن ماذا؟
- المشكلة أن الطب يحتاج لمعدل عال جداً.. لا تتخيلي صعوبة ذلك..
- وما العائق أمامك.. أنت متفوقة ما شاء الله.. متفوقة جداً وذكية.. هل اللاتي دخلن الطب أفضل منك..
أبلع كلماتي بألم فمن المعيب أن نتناقش في ذلك أمام الحاضرات..
وتقطع أمي الحوار لتقول بثقة وصرامة..
- إنها ذكية.. لكنها تستحي أن تمدح نفسها..!
ويسكت الجميع.. وأنا أشعر بالحمل على عاتقي يزداد.. والهم في قلبي يكبر.. والخوف يخنقني أكثر فأكثر..

* * *

قبل الاختبارات النهائية أصبت بمغص شديد.. قيء.. فقدان شهية.. حرارة وهذيان.. كنت أبكي طوال الليل والنهار..
لم يبق أحد من أقاربي لم يتصل ويمنحني شيئاً من توجيهٍ ولوم كنت أشعر أنه يزيد مرضي ويثير غثياني أكثر..
كنت أشعر بأني كالغريقة.. في لجة لا قاع لها..
أريد أن أهرب.. أريد أن أبتعد عن الاختبار.. وعن رعبه المميت..
لكن.. حتى.. لو.. لو.. تركت الدراسة.. وقررت عدم الاختبار..
فإن الأمر الآخر الذي أغرق فيه ولا أستطيع الهروب منه.. هو طموح أهلي الذي أثقل ظهري وملأ قلبي هماً..
كيف أهرب من نظراتهم.. ومن طموحهم بي الذي سيتحطم تماماً..
تقول أمي أن أبي يفتخر كثيراً بي وبتفوقي – المزعوم- أمام زملائه.. وسيزداد فخراً إذا استطعت دخول كلية الطب.. وتقول.. أن علي أن أنجح بتفوق لكي ترفع رأسها أمام قريباتها..
- ستعرف موضي أن ابنتها ليست الأفضل لأنها دخلت الحاسب.. فأنتِ ستدخلين الطب بإذن الله!

وحتى في أقصى حالات مرضي وانهياري قبل الاختبار الأول بيوم واحد.. لم ترحمني أمي..
فبينما كنت في المستشفى وأنبوب المغذي يدفع شيئاً من الطاقة في جسمي المنهك الخائر..
اقتربت الطبيبة الشابة ومسحت على رأسي بعطف..
(لماذا يا حبيبتي كل هذا الخوف من الاختبار؟ لماذا هذا الاهتمام؟
فلتحصلي على نسبة منخفضة!! نعم.. ماذا في ذلك؟ النجاح يكمن في داخلك أنت.. وليس مرتبطاً بأرقام المعدل..
لتحصلي على أقل نسبة وحتى لو لم تدخلي أي كلية.. فماذا في ذلك؟ كل هذا لأجل درجات الدنيا؟
إن الأهم يا حلوتي هو درجات الآخرة .. وليست درجات هذه الدنيا الفانية)
كان كلامها مريحاً وكأنه دواء مسكن لنفسي الملتهبة.. لكن قبل أن تبدأ علامات السكينة والراحة بالظهور على وجهي قلبت أمي وجهها وقالت وهي تنظر للطبيبة بعتاب وضيق..
(لا داعي لهذا الكلام يا دكتورة.. فهي ذكية ومتفوقة وإن شاء الله تستطيع بقليل من الإرادة أن تحصل على أعلى النسب.. وتصبح طبيبة مثلك.. هي فقط مصابة بالعين حماها الله)
تحطمت آمالي بأن يقتنع والداي بمحدودية قدراتي.. وبأني إنسان.. ضعيف.. له قدرات محدودة مهما فعل..
ودخلت الاختبار..
لكني خرجت من المدرسة بعد يومين إلى المستشفى مباشرة..
حيث مكثت أسبوعين أعالج من انهيار عصبي حاد.. لا زالت آثاره معي حتى اليوم..
ولازلت أشتم رائحة الطباشير.. وأشعر ببلل الخجل..
ووجها أمي وأبي يلسعانني بسياط الألم..


**
مجلة حياة العدد (58) صفر 1426هـ


--------------------------------------------------------------------------------


- 27 -
شيء يشرق..




حملقت أمي بي وصرخت بقوة..
- بنت!! ألا تستحين؟ قومي.. بسرعة!.. ساعدي البنات في وضع العشاء..
شعرت بماء ساخن يصب على رأسي خاصة وأننا أمام زوجات أخوالي وخالاتي كما أن هناك بعض القريبات الأبعد..
قمت بسرعة وأنا أتعثر بطرف تنورتي من شدة الارتباك..
أسرعت للمطبخ وأنا أرتعش من شدة حرجي محاولة أن أخفي مشاعر كثيرة تتضارب داخلي..
كان المطبخ مزدحماً بالخادمات وببنات خالاتي..
أخذت أتساءل عما يمكن أن أفعله.. لكن أحداً لم يجبني..
تناولت طبق (السليق) الكبير من إحدى الخادمات لأحمله نحو السفرة..
كنت أجري بسرعة لأضعه على السفرة حين.. لا أعرف كيف – انزلقت قدمي.. و.. هووووب..
وجدت نفسي على الأرض.. وقد طار الصحن ليسقط على الأرضية عن يميني.. واندلق (السليق) على الأرض وتناثر في كل مكان..
تمنيت في تلك اللحظة أن تنشق الأرض وتبتلعني..
تعالى صراخ أمي..
- وجع!.. وجع! .. الله يفشلك يا (الرفلة)!
كانت قدمي ملتفة وتؤلمني بشدة.. لكني تظاهرت بالابتسام وعرقي يتصبب.. وضغطت على نفسي بشدة لأقوم بسرعة رغم الألم الشديد وأقفز نحو المطبخ..
أحضرت المنشفة وبدأت أمسح وأنا في قمة الحرج.. بينما أطراف ملابسي متسخة بما تناثر عليها من طعام..
كان كل من في الغرفة ينظر إلي بشيء من شفقة..
أخيراً مسحت خالتي على ظهري بحنان.. وقالت..
- لا بأس يا حبيبتي اتركي الخادمة لتكمل عنك.. أهم شيء أنه لم ينسكب عليك أو يحرقك ولله الحمد..
سحبتني من يدي.. وأنا أرتعش من شدة الحرج..

× × ×

في طفولتي.. كنت أنظر طويلاً لخالتي.. وكيف تعامل بناتها بحنان وحب..
كنت أستلذ بإحضار أي شيء لها فقط لكي أسمع منها كلمة (حبيبتي).. يا سلاااام ما أجملها.. كنت أنتشي للحظات حين أسمعها غير مصدقة.. وكثيراً ما دعوت الله أن أصبح ابنتها بأية طريقة..
وحين كنت متأثرة بقصص أفلام الكرتون في طفولتي- مثل (ريمي) و(بشّار) وغيره- كنت أعتقد أنه سيأتي اليوم الذي أكتشف فيه أن أمي ليست أمي الحقيقية بل هي خالتي الحنونة أو أم حبيبة أخرى لا زالت تبحث عني!!..
كنت أعامل نفسي كغريبة يتيمة تعيش في هذا البيت.. فلا أحد يهتم بي أو يقول لي كلمة طيبة واحدة.. الكل يصرخ علي.. والكل يعاملني بدونية وبقسوة..
كنت أراقب تصرفات بعض الأمهات مع بناتهن فأشعر بالبون الشاسع..
زوجة عمي كانت تستشير بناتها حتى في اختيار ملابسها هي.. وفي اختيار أثاث بيتهم.. كانت تثق بهن.. وتمنحهن امتيازات نادراً ما أحظى بجزء منها.. كنت أغبطهن لأنها تعاملهن كنساء ناضجات.. وتناقشهن في شتى الأمور..
وحين كنت أرى كيف كانت خالتي تعامل بناتها كنت أعود لغرفتي في الليل وأبدأ في البكاء..
كانت تحنو عليهن.. وتدللهن بأجمل الألقاب.. تمدح مظهرهن.. وطبخهن.. وذوقهن.. وتتفنن في تعزيز ثقتهن في أنفسهن مقارنة بالآخرين.. وفي كل مجلس كانت تذكر بناتها بالخير..
على العكس من أمي التي ما فتأت تنشر الأخبار عن فشلي وإهمالي مهما فعلت ومهما حاولت إرضاءها.. لقد حطمت ثقتي بنفسي تماماً..

× × ×

حين مضت الأيام والسنون.. نظرت إلى نفسي.. فوجدت أني أصبحت حطام إنسان..
إنسانة ضعيفة الشخصية محطمة جبانة.. ترتجف كلما حادثها أحد.. ترتبك عند أبسط حوار..
حتى شكلي لم أعد أهتم به.. فكلما قمت بتعديل شكلي حسب ما أراه مناسباً.. كانت أمي لي بالمرصاد فهذا لا يناسبك.. وكان من الأفضل لو قمت بذاك.. البسي مثل ابنة فلان.. ومشطي شعرك مثل فلانة..
كنت أتمنى لو أمتلك الحرية لأهتم بنفسي كما أحب لكن لم أكن أستطيع.. فقد كنت أخاف انتقادها وسخريتها بي حين أقوم بأبسط تغيير..
تزايد ضعفي وخوفي بشكل كبير.. كنت أشعر أن الجميع يحتقرني..
حين أجيب على سؤال في المدرسة.. كانت يدي النحيلة ترتجف والعرق يتصبب من جبيني بشكل ملفت..
لم يكونوا يعرفون أني لم أتمن يوماً لنفسي أن أكون هكذا.. لكنه شيء أقوى مني يحطمني ويضغط علي بقوة..

× × ×

ذات يوم.. كنت أجلس في الفسحة وحدي كالعادة.. أستند لجدار أصفر مثل وجهي الشاحب وأتناول شطيرتي.. حين مرت من بعيد معلمتي الجديدة أسماء..
كنت أنظر إليها.. ما شاء الله.. إنها شعلة من حماس ونشاط.. هي فتاة لا تكبرني سوى بأعوام بسيطة.. لكنها تفور بالحيوية والنشاط والثقة بالنفس.. لديها خطط لتطوير المدرسة وللنهوض بأنشطتها.. كلامها ممتع ودرسها مسلٍ جداً.. في عينيها شعاع سحري .. مزيج من سعادة ومرح وقوة..
حين أنظر لعينيها أشعر بأن شيئاً من سعادة تتسلل إلى نفسي.. تجعلني أتمنى أكثر لو لم أكن أنا.. بل شخصية أخرى..
كانت تقفز بخفة بحذائها الرياضي حين مرت بقربي.. فمدت عنقها نحوي بطرافة وقالت بمرح.. (أهلاً يا جميلة..!)
شعرت بصدمة.. وحرج.. من؟.. أنا؟.. جميلة؟..
التفت حولي.. واحمر وجهي خجلاً..
(ممكن مساعدة يا فجر؟.. إذا سمحت؟)
كدت أطير من الفرح.. مساعدة؟ بالتأكيد.. على الأقل ستكون أمتع من الجلوس وحدي على الأرض المغبرة..
قمت من مكاني بخجل.. ومضيت معها نحو المعمل.. كانت تريد مساعدتها في تنسيقه وترتيبه..
صعدت على الكرسي وسحبت إحدى الكراتين فتطاير الغبار منه..
(يا الله!! لا أعرف كيف مر على هذا المعمل عشرات المعلمات في مدرستكم دون أن تفكر إحداهن في ترتيبه وتنظيفه وتنسيق شكله..؟!)
لم يكن لدي ما أستطيع به تبادل الحوار معها..
فسكت بخجل..
أخذت تنزل المزيد من الكراتين وأنا أتناولها منها..
(الترتيب مهم جداً.. لا أستطيع أن أعمل إذا لم تكن غرفتي مرتبة.. كل إنسان يحتاج لترتيب أشيائه ما بين فترة وأخرى..)
أمسكت فوطة مبللة وبدأت تمسح الأرفف..
(بل.. يحتاج.. حتى لإعادة ترتيب نفسه ما بين فترة وأخرى.. أليس كذلك؟)
أشارت بيدها لأناولها منظف الزجاج..
(أليس كذلك؟)
ارتبكت وقلت.. (م.. ماذا؟)
(أليس كل إنسان بحاجة لإعادة ترتيب نفسه ما بين فترة وأخرى؟)
(ما الذي تقصدينه يا أستاذة؟)
(ألا تعتقدين أن كل منا بحاجة لأن ينفض الغبار عن نفسه ما بين فترة وأخرى يعيد بناء شخصيته وصقل أفكاره؟)
احمر وجهي قليلاً.. وقلت مختصرة عليها الطريق.. (لا أستطيع..!)
استمرت في التنظيف بنشاط، وقالت بهدوء وببساطة (لماذا؟)..
(لو كانت ظروفك مثل ظروفي لقدرتني)..

أخذت تعيد الكراتين لمكانها بترتيب وتناسق.. ثم جلست وقد أنهكها التعب.. ونظرت إلي بقوة.. وقالت..
(تعتقدين أني ولدت وفي فمي ملعقة من ذهب؟.. أو أنني كنت سعيدة في أسرة دافئة؟.. كلا.. إذا كنت تعقدين ذلك فأنت مخطئة!!..
انظري إلي.. لا تكوني ضعيفة وترمي السبب على الآخرين مثل أسرتك وبيئتك..
أنت تستطيعين أن تكوني قوية إذا أردت ذلك..
القوة.. هي شعار المؤمن ورمزه.. القوة التي أقصدها هي العزة.. والمؤمن دوماً مميز بعزته..
لا أحد يستطيع أن يحطمك أو يضعفك إذا اعتقدت أنك قوية بإذن الله وتوكلت على الله..
كوني قوية.. ولا تستسلمي لإغراء الضعف..
لا أحد سيأتي ويجعلك قوية.. أنت فقط من تستطيعين ذلك بإذن الله..)

قلت بتأثر.. (أمي.. إنها أمي يا أستاذة.. إنها تحطمني.. صدقيني.. أنت لا تعرفين..)

ردت بثقة وسرعة..
(مهما كانت شخصية أمك قاسية.. فهذا ليس سبباً للاستسلام.. إنها أمك أولاً وأخيراً.. عليك برها وإرضاؤها وتليين جانبك لها والصبر عليها.. لكن في نفس الوقت.. لا تجعلي قسوتها سبباً لتحطيمك.. كوني أقوى واصمدي وإلا لن تستطيعي العيش طويلاً في هذا العالم القاسي!!
وتذكري دوماً أن ما لا يقتلني.. يتركني أقوى..
كل الآلام والجروح تستطيعين ترويضها وجعلها دافعاً لقوتك وتحملك بإذن الله)..

كنت أسمع كلامها بتأثر عجيب وأنا أخفي دموعي بالنظر للأرض..

(فجر.. انظري إلي.. لا تنظري للأرض..!
فجر!.. أنت إنسانة رائعة فيك الكثير من الصفات الطيبة.. لكنك تدفنين كل ذلك باستسلامك للضعف والخوف والانطواء!)

رن صوت الجرس معلناً انتهاء الفسحة، فبدأت ترتب ما بقي وتجمع الأدوات بسرعة وهي تقول..
(حسناً سأقول لك شيئاً..
إذا كنت تعتقدين أن الأقوياء هم من لم يمروا بظروف قاسية.. فأنا عشت بين أبوين منفصلين.. عشت متنقلة ما بين بيت أبي وجدتي.. هل جربت يوماً شعور ألا تكوني مستقرة في بيت واحد؟
أنا عشت هكذا.. ولن أذكر المزيد من التفاصيل الحزينة.. ويكفي أن تعلمي أني حرمت من رؤية أمي خمسة عشر عاماً.. بل هي التي لم تكن ترغب برؤيتي أصلاً!!..
لكن فقط.. أنا .. لم أرد أن أكون ضعيفة.. لقد قررت أن أصبح قوية ودعوت الله أن أكون كذلك لأساعد غيري)

خرجت معها من المعمل وأنا منبهرة تماماً.. قالت بمرحها المعتاد..
(سنعود لترتيبه مرة أخرى قريباً.. لا بد من إعادة الترتيب ما بين فترة وأخرى.. أليس كذلك)

ابتسمت لها موافقة.. وفي أعماقي شيء رائع يشرق..


**
مجلة حياة العدد (59) ربيع أول 1426هـ




--------------------------------------------------------------------------------

- 28 -
ورأيت وجهها الآخر ..

أناس كثر نراهم في هذه الحياة..
لا نرى سوى أقنعة وجوههم الجميلة..
ثم ما نلبث أن نصدم بحقيقة قبحهم..
وآخرون.. على العكس تماماً..
تنضح أرواحهم الجميلة من أعينهم.. رغم الأقنعة..
رغم الألم..

* * *

كان يوماً عادياً من أيام دراستي في المعهد..
حين رأيتها تدخل علينا على استحياء في القاعة..
- عفواً أستاذة لمياء.. أنا الطالبة الجديدة في هذه الدورة.. أروى عبد الله.. هل يمكنني الدخول؟
نظر إليها الجميع باستغراب..
الطالبات.. المدرسة.. الكل يتفرس في وجهها الغريب..
لكن كان من الواضح.. أنها كانت مستعدة لهكذا
نظرات..
ابتلعت المعلمة ريقها بصعوبة وقالت هي تحاول أن تتماسك وتخفي نظرة استغرابها أو تخوفها المفاجئ..
- حسناً.. تفضلي يا أروى..
بقينا ننظر بغباء وكأننا نريد أن نشفي غليلنا من شيء ما.. نتفرس في الوجه المشوه الغريب..
كانت تسير بهدوء وثقة.. بينما أخذت الفتيات يبتعدن بكراسيهن المتحركة عن طريقها.. وكأنهن يشعرن بشيء من خوف أو ريبة من هذه الإنسانة المسكينة..
وقفت تبحث عن مكان تجلس فيه..
كانت معظم الأماكن مليئة.. لا يوجد سوى مقعدين فارغين فقط..
حين اقتربت من شيماء لتجلس قربها.. قالت بسرعة.. وعلى وجهها ملامح غريبة تجمع الشعور بالتقزز مع الشفقة مع الخوف مع أشياء أخرى..
- هذا الجهاز معطل.!
كنا نعلم أن الجهاز يعمل.. لكننا سكتنا..
علمت أنها شعرت بأنها غير مرحب بها..
شعرت بنسمة إنسانية تمر على قلبي.. ضغطت على نفسي ودعوتها لتجلس قربي..
- هذا المكان فارغ.. تفضلي..
أتت بهدوء.. وحين اقتربت.. شعرت أكثر بمدى غرابة وجهها..
لكني حاولت تركيز نظري على الجهاز حتى لا أنظر إليها..
في البداية كنت حين ألتفت فجأة لأنظر إليها.. أشعر بشيء من الخوف..
كانت بلا أنف تقريباً.. وبلا شفتين..
وعيناها بالكاد تظهران من فتحتين صغيرتين.. مع تجعدات كثيرة على جوانب وجهها..
وحين انتهى اليوم.. خرجت بهدوء وحدها..
فبدأت همهمات البنات وأصواتهن الحادة..
- يا الله.. مسكييييينة.. !
- يا حرااام...
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد..
إذ بدأ البعض بإبداء مشاعر التقزز والخوف منها..
قالت إحداهن..
- صراحة شكلها يخوف.. خفت منها مرة..
- فعلاً أنا بصراحة لا أستطيع التحمل.. أنا لم أدفع مالي لحضور دورة مع هكذا أناس..!
سبحان الله!
قلت في نفسي.. ألهذه الدرجة نتجرد من إنسانيتنا
أحياناً..

* * *

كانت تحاول دائماً أن تخفي وجهها عنا فتلفت إلى أحد الجانبين..
وكنت أحاول بدوري أن أعود نفسي على النظر إليها، حتى أتخلص من شعور الصدمة الذي يباغتني كلما التفت نحوها..
انسحبت شذى من الدورة فهي كما تقول لم تستطع الجلوس في المكان فقد كانت تشعر (بالخوف) والرغبة في البكاء كلما نظرت إلي أروى..
وعرفت كيف أن أقسى الناس قلوباً هم من يدعون أنهم الأكثر (رقة) وحساسية أحياناً..
البقية لم يوضحوا أي مشاعر، لكن تصرفاتهم كانت جامدة جداً وحذرة مع المسكينة.. وأحياناً كانوا يتفرسون في وجهها حين تتكلم بشكل واضح..
أما أنا فحاولت أن أكون طبيعية قدر الإمكان معها..
ويوماً بعد يوم بدأت أعرف الروح الجميلة التي في داخلها..
كانت أروى فنانة في الرسم..
وحين أبديت لها بعض الاهتمام..
وجدتها تحضر لي بعض رسوماتها الرائعة.. والتي وقفت مبهورة أمام جمالها وألوانها الرائعة التي تكاد تنضح بالحياة..
كل هذا الجمال في داخلها؟ سألت نفسي.. سبحان الله..
كانت دقيقة في عملها.. مرتبة..
وكانت أسرعنا تعلماً.. وأكثرنا مهارة في الحاسب..
وذات يوم سألتها..
- في أي مرحلة دراسية أنت يا أروى..؟
- أنا؟
ضحكت ثم قالت..
- ستفاجئين!
- لماذا..
- لا زلت أدرس في الصف الثالث المتوسط..
مسائي..
سكت.. فقد كانت بالفعل تبدو على الأقل في المرحلة الجامعية..
لكنها قطعت تعجبي وقالت..
- تركت الدراسة لمدة سبع سنوات بعد الحادث الذي شوه وجهي..
شعرت بالرهبة لأنها بدأت لأول مرة تتحدث عن هذا الأمر..
لم أعرف ماذا أقول.. لكني ابتسمت وأبديت اهتمامي.. فأخذت توضح..
(كنت قد أنهيت الصف الثاني المتوسط.. وفي أول أيام العطلة الصيفية.. حدث حريق كبير في بيتنا.. وكنت وحدي في غرفتي.. محاطة بالنيران..)
ابتلعت ريقها وقالت وهي تشير لوجهها وتتحاشى النظر إلي..
(طبعاً احترق ثلاثة أرباع جسمي.. بل إنهم حين أخرجوني لم يكن لي وجه..!
ابتسمت وكأنها قالت نكتة.. لتحاول أن تخفف من الشعور بالألم الذي بدا على وجهي..)
كانت تمسك بفأرة الحاسب وتحاول أن تشغل نفسها بفتح بعض الملفات وهي تتحدث..
(مكثت ثلاث سنوات وأنا تحت أيدي جراحي التجميل.. أتحمل الآلام المبرحة.. القاتلة لكي تظهر لي معالم وجه..! وبعد جهد جهيد.. ظهر هذا الوجه.. ولله الحمد.. أفضل من لا شيء!!)
استغربت من قوتها.. وكيف تتحدث عن الأمر بشكل عادي.. شعرت بإعجاب شديد بشخصيتها..
(في السنوات الثلاث الأولى كان تفكيري ودعائي منصباً على أن يرحمني الله بالموت.. وأتخلص من الألم القاتل.. ألم الحروق.. وألم فقدان وجهي الذي كان جميلاً.. وألم فقدان قدرتي على الذوق والبلع بسهولة.. على التحسس بأصابعي.. ألم فقداني لأنوثتي).
تنهدت وهي تبتسم بمرارة..
(فيما بعد.. بدأت أقتنع شيئاً فشيئاً أن هذا ابتلاء من الله.. وصبرت واحتسبت.. لكن الألم الأشد الذي بدأ يواجهني.. هو.. مواجهة الناس..
إنه أشد الآلام فتكاً يا نورة.. ألم لا تتصورينه.. ألم يحرقني أكثر مما أحرقتني النار نفسها.. نظراتهم.. شفقتهم.. تقززهم.. أو استهزاءهم أحياناً..
تخيلي أن تصرخ فتاة وتقول لزميلتها..
&qu
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صغير بس خبير
مشرف
مشرف



ذكر عدد المساهمات : 460
نقاط : 626
السٌّمعَة : 0
المزاج : جيد جدا

قصص واقعية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص واقعية   قصص واقعية Emptyالخميس يونيو 24, 2010 12:11 pm

فلا تطفئيه



أسماء الباني


كنت وأنا فتاة... (هكذا حدثتنا) أعيش بهواي.. أتفنن في زينتي ومكياجي.. وعطري يفوح لأمتار.. ليرى الناس كم أنا أنيقة وجميلة..

وذات يوم.. خرجت إلى السوق مع والدتي.. وبينما أنا أمشي إذ سمعت فجأة صوتاً من خلفي ينادي بصوت يقطر حباً وحناناً:
يا حبيبتي... يا حبيبتي.. فالتفت فإذا بسيدة تصافحني بحرارة .. فصافحتها بدهشة .. فشدت على يدي وقالت بصوت ملائكي حنون: يا حبيبتي... إني أرى الله قد ألقى على وجهك نوراً.. فلا تطفئيه.. بظلمة المعصية... فأخذتني العزة بالإثم ونترت يدي من يدها ومضيت غير أني أحسست كأنما كلماتها قد نقشت في قلبي...

فلما عدنا إلى البيت... صارت تأخذني رعدة شديدة كلما ذكرت كلماتها (إني أرى الله قد ألقى على وجهك نوراً ... ).
وساقتني كلماتها إلى المرآة .. ونظرت إلى وجهي.. كأنما أراه لأول مرة.. وخيل إليَّ في وجهي نوراً يضيء ثم يخبو ... عندئذٍ ... رنت في فؤادي كلماتها (فلا تطفئيه بظلمة المعصية ... )

صليت في هذه الليلة... صلاة العشاء، صلاة متدبرة لأول مرة في حياتي... ثم أويت إلى فراشي... غير أن النوم جفاني... وبدأت كلماتها ترنُ من حولي... فلا تطفئيه... فلا تطفئيه... فلا تطفئيه... وأخذت تتجاوب بها جنبات الليل... حتى خيل لي أني أسمع صوتاً يناديني يا فلانة ... إن الله قد ألقى على وجهك نوراً... فلا ... عندئذٍ لم أدع الصوت يكمل بل قمت مسرعةً إلى سجادتي... وقلبي يكاد ينخلع من شدة الخفقان... وخررتُ ساجدة وأنا أهتف أعاهدك يا رب... ألا أطفئه أبداً... وبدأت الدموع تنهمر مدراراً وأنا أقول: يا رب... لقد أمهلتني طويلاً... ما أكثر نعمك... وما أقل حيائي... يا رب.. وترددت صيحة الحق ودوت في جنبات الكون من المسجد المجاور لبيتنا وأنا في بكائي ونشيجي .. ومن لحظتها وفيت بعهدي فلم أطفئه بمعصية أبداً...
حينئذٍ التفت إلى وجهي فإذا هو يتألق نوراً ...


**
المصدر: مجلة حياة العدد (30) شوال 1423هـ



تحرير: حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صغير بس خبير
مشرف
مشرف



ذكر عدد المساهمات : 460
نقاط : 626
السٌّمعَة : 0
المزاج : جيد جدا

قصص واقعية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص واقعية   قصص واقعية Emptyالخميس يونيو 24, 2010 12:12 pm

قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (8)


الدكتور عثمان قدري مكانسي


قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (1)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (2)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (3)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (4)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (5)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (6)
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم (7)

القصة السادسة والثلاثون
الكذبات الثلاث


هاهم أولاء الصحابة الكرام في مجلسهم المعهود بعد الصلاة أمام معلمهم وهاديهم وسيدهم محمد عليه الصلاة والسلام يسمعون منه ، ويعون بقلوب عامرة بالإيمان ، مفعمة بالتقدير والحب ، يسألونه :
يا رسول؛ الله حدثتَنا أن إبراهيم عليه السلام حين يأتيه المؤمنون يوم الحشر يستشفعونه إلى الله تعالى ليدخلهم الجنة يذكر كذباته ويقول :
نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى موسى . فماهي هذه الكِذبات ؟ وهل يكذب نبي؟! إننا نقف محتارين حين يخطر ببالنا أن نبياً يكذب !!.
نظر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم نظرة المعلم الحاني ، وابتسم ، فأشرقت نفوسهم بابتسامته ، ولمعت عيناه ببريق شع ضوءُه فدخل أفئدتهم ، فأنارها ، وأقبل عليهم ، فأقبلوا عليه .
فقال : كذب إبراهيم ثلاث كَذبات ( في عرف الأنبياء ) إذ كل حركة وسكنة محسوبة عليهم ، وعين الخلق – محبّهم ومبغضهم – تتابعهم ، يحصون ما يفعلون وما يقولون . فالمؤمنون يفعلون ذلك أسوة واتّباعاً ، والشانئون يفعلونها إرصاداً وإحصاء .
أما الكذبة الأولى فقد كان قومه أهل تنجيم ، فرأى نجماً قد طلع ، فنظر إليه متأملاً عظمة الخالق وجماله فيه ، وجاءه قومه يسألونه أن يخرج معهم للاحتفال بولادة هذا النجم - وهذا من طقوسهم – فبيّت إبراهيم في نفسه أمراً لا يستطيع عمله إلا إذا خلا الجو ، وفرغ المكان من الناس ، فعصب رأسه ، وقال : إني مطعون ( مصاب بالطاعون) فتولوا عنه مدبرين خوفاً أن يعديهم .
قال الصحابة الكرام : وما الأمر الذي عزم إبراهيم عليه السلام أن يفعله حين يخلو بنفسه ؟.
قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :
إنه عزم أن يكسر الأصنام التي يعبدونها لينتبهوا من غفلتهم ، ويعلموا أن هذه الآلهة المزعومة – لو كانت آلهة بحق – دافعت عن نفسها .
قالوا : وهل فعل ما قرره ؟!
قال صلى الله عليه وسلم : لما خرج الكهنة ومعهم دهماء الناس مال إبراهيم إلى الأصنام دون أن يشعر الناس به ، فدخل المعبد ، فوجد أمام الأصنام طعاماً ،
فقال لها هازئاً بها : هذا الطعام أمامك ، فيه ما لذ وطاب ، كليه !! مدي أيديك إليه !! .
ولكنْ لاحياة لمن تنادي ....
قال لها مرة أخرى : تذوقيه وتلذذي به ؛ لِمَ لا تفعلين ؟! ..إن كهنتك الأفاقين يُلبّسون على الجهلة ذوي العقول الفارغة ، فيوحون إليهم أنك تأكلين وتكلمينهم ، وتوحين إليهم ، فهم الواسطة بينك وبين الغوغاء !! لماذا لا تنطقين ؟ لأحطمنّك إرْباً إرْباً ، فدافعي عن نفسك ، حافظي على ألوهيتك ! .. ولكنْ أنّى للحجر والخشب أن يتكلما أو يدفعا عن نفسيهما السوء؟! إنها آلهة مزعومة ، لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ...
كانت نفسه في أوج كرهه إياها ، فطفق يضربها بقوة ، يكسرها ، يفتتها ، يبعثرها .. حتى جعلها حطاماً ... وترك كبيرها وسط الدمار علامة الضعف والذل والهوان ، وعلّق عليه الفأس احتقاراً ، عل عبّاده يفكرون ، ويعلمون أنهم في ضلالهم يعمهون ... إن التفكير السليم يوصل إلى القرار السليم .
وجاءه قومه فدخلوا معبدهم ، ويا لَهولِ ما رأوا ! ... هذه الآلهة صارت شَذَر مذَر ... من يجرؤ على هذه الفعلة الشنيعة ؟!!
قال بعضهم : هناك فتى يذكر آلهتنا بسوء اسمه إبراهيم ، فلعله الفاعل ! .
وجيء بإبراهيم ، فأوقفوه موقف المتهم ، وسألوه : أأنت فعلت هذا بآلهتنا ؛ يا إبراهيم ؟!
وكان الناس مجتمعين يسمعون وشهدون .
وهنا تفوّه بالكذبة الثانية : وهي في الحقيقة وخزة لضمائر الناس وهزة لعقولهم ، قال :
بل فعله كبيرهم هذا ، فاسألوهم إن كانوا ينطقون !!
لقد غضب هذا الإله الكبير أن تُعبد الآلهة الصغيرة معه ، فانتهز فرصة غيابكم ، فتخلص منها ... اسألوه ، إنه أمامكم ....
إن الفطرة حين تنفضّ عنها ركام الجاهلية ولو برهة يسيرة تنطق صواباً ... لقد كان دفاعه رائعاً حقاً ، منطقياً ، رجّهم رجّاً ، وهزّهم هزّاً .
قالوا : لقد ظلمتم إبراهيم حين اتهمتموه ، هذه آلهتكم أمامكم فاسألوها ، اوَ لستم تعبدونها وتقدّسونها ؟! ففيها حياة إذن !! وضج المكان بالتساؤلات الجادّة والتكهّنات الساخرة .
كان من البدهي – لذوي الأحلام وأصحاب العقول – أن يثوبوا إلى صوابهم ، ويعرفوا أن هذه الأصنام التي صنعوها بأيديهم هم سادتها ، وليست هي سيدتَهم ...
ولكنْ أنّى للعقول العفنة التي ران عليها الكفر ، وطمسها الضلال أن ترى نور الحق وضياء الوحدانيّة ؟! أنّى لمن عاش في حمْأة الغي أن يتلمّس الهداية والإيمان ؟!
لقد كادت كلمات إبراهيم تزلزل الأرض تحت أقدام الكهنة المتعفنين ، وتسلبهم سلطتَهم وزعامتهم إلى الأبد ... لا لا .. لا ينبغي لصاحب الكلمة الحق أن يصدع بها ، إنما يجب كمّ فمه ، فلا يتكلم ، ويجب إرهاب الحاضرين كي يجبُنوا فلا يتبعوه ...
قالوا وقد أعمى الضلال قلوبه ، ونكسهم ، فغاصوا في أوحال الشرك والكفر :
"لقد علمتَ ما هؤلاء ينطقون" ، فقلتَ قولتَك تحرّك بها عوام الناس وتؤلبهم علينا ، وتسحب البساط من تحت أرجلنا !!..
استمر صوت إبراهيم مدوّياً ، يتحدّى أن يشلّ الداعية أو أن يخيفه :" أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم ؟!.. "
ثم أعلن أن العبادة الحقة لله وحده ، فقال : " أفّ لكم ولما تعبدون من دون الله .. أفلا تعقلون ؟!."
أما الكذبة الثالثة فقد كان إبراهيم عليه السلام – بعد أن نجّاه الله من النار التي أرادوا أن يحرقوه بها ، فانقلبت عليه برداً وسلاماً- ذات يوم وزوجه سارة قد ابتعدا عن أرض الكفر والفساد ، ودخلا أرضاً يحكمها جبار من الجبابرة ، فأرسل إليه مخبروه أنّ ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن النساء جمالاً وسمتاً ، فأرسل إليه ، فسأله عنها والشرر يتطاير من عينيه ، يريدها لنفسه . فإن قال إبراهيم : إنها زوجتـُه قتله وأخذها .فقال : إنها أخته ... فقال الجبار : أريدها إذاً .
فانطلق إبراهيم إلى سارة ، فقال لها : ليس على وجه هذه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني عنك ، فأخبرتُه أنك أختي ، وأضمرتُ الأُخُوّة في الله ، فلا تُكذّبيني .
فأرسل الجبار إليها ، فلما مثلت بين يديه مدّ يده إليها ... فتوقفت يده كأنها قطعة خشب ، لا يستطيع لها حراكاً ... قال لها : ادعي الله لي ، ولا أضرك ، فدعت الله تعالى ، فأُطلقت يدُه بإذن الله تعالى ... لكنّ شيطانه وسوس له أن يحاول كرّة أخرى ، ففعل ، فأصابه أشدُّ ما أصابه في المرّة الأولى ، فناشدها الله أن تدعو له ، ولن يعود إليها . فدَعَتْ ، فأُطلقتْ يدُه ..
فدعا الجبار بعض خدمه ، فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتموني بشيطان – وتناسى أنه هو الشيطان – أعيدوها ، وهبوا لها هاجر خادمة لها .
فجاءت سارة إلى إبراهيم وهو يصلي ، فأومأ بيده إليها يسألها عن حالها – لم يستطع الانتظار ، فالأمر جد خطير – فقالت مقالة المؤمن الواثق بربه : ردّ الله كيد الكافر .

صحيح البخاري ج 3
كتاب بدء الخلق : باب قول الله تعالى :
واتخذ الله إبراهيم خليلاً



--------------------------------------------------------------------------------


قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة السابعة والثلاثون
أهل الفردوس الأعلى
دكتور عثمان قدري مكانسي


صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العصر بأصحابه ، ثم سبّحوا ، وحمدوا الله تعالى ، وكبّروا ، ثم سألوا الله تعالى العافية في الدنيا ، وسألوه الجنة في الآخرة ، ولم يقم أحد منهم ، فقد رأوا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتسامة تُشيع في نفوسهم الاطمئنان ، وكأنه سمع منهم دعاءً سره ، فأراد أن يحدثهم ليسرّهم كذلك ، فابتسموا له صلى الله عليه وسلم ، ورنت إليه عيونهم وقلوبهم ينتظرون ما يقول .
قال : أراكم تسألون الله تعالى الجنة ، أفتعلمون ما فيها ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : قال الله تعالى : أعددت لعبادي ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر
. اقرؤوا إن شئتم " فلا تعلم نفس ما أُخفيَ لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون " .
قالوا : فمن أول الداخلين إليها ؟.
قال : أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر .
قالوا : ثمّ مَنْ ؛ يا رسول الله ؟ .
قال : والذين على إثرهم كأشد كوكبٍ إضاءةً .
قالوا : فما صفات هؤلاء وهؤلاء ؟.
قال : قلوبهم تملؤها المحبة ، وكأنهم على قلب رجل واحد ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، لا يبصقون فيه ، ولا يتمخّطون ، ولا يتغوّطون ، آنيتُهم فيها الذهب ، أمشاطُهم من الذهب والفضّة ، يتبخرون بعود الصندل ، وعرَقـُهم المسك الزكيّ الرائحة ، ولكل منهم زوجتان يُرى مُخّ سوقهما من وراء اللحم من الحُسن ، يسبحون الله بُكرة وعشيّاً .
قالوا : أهم كـُثـُرٌ ؛ يا رسول الله ؟.
قال : سبع مئة ألف . لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم. فأبواب الجنة عريضة تضمّهم جميعاً ،
يدخلون بغير حساب .
قال عُكّاشة بن مِحصن : ادع اللهَ ؛ يا رسول الله أن أكون منهم .
قال : أنت منهم . ... فانتعشت أوصال عُكّاشة ، وحمد الله وكبّر ، فليس من بشرى أفضل من هذه
البشرى .
قالوا : فزدنا توضيحاً يا رسول الله .
قال : إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلالها مئة عام لا يقطعها ! ، واقرأوا إن شئتم "
وظلٍّ ممدود " ولَقابُ قوسِ أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو غربتْ ، وإن
موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها .
قالوا : أمنازل المؤمنين فيها متساوية ؟.
قال : لا ، إن أهل الجنة ينظرون إلى أهل الغرف من فوقهم كما ينظر أحدكم إلى الكوكب الدريّ
العالي في كبد السماء شرقاً وغرباً ، إن مقام أهل الفردوس الأعلى عظيم عظيم .
قالوا : لعل تلك المنازل تخص الأنبياء فقط ؟.
قال : لا ، والذي نفسي بيده ! إنها منازل رجال آمنوا بالله ، وصدّقوا المرسلين .
رفع المسلمون أيديَهم إلى السماء ، وقالت قلوبهم قبل ألسنتهم :
اللهم ؛ يا ربنا : أمنا بك إيماناً يزداد بك يقيناً ، وصدّقنا رسولك الكريم ، فاكتبنا في أهل
الفردوس الأعلى ، وارزقنا الغـُرف في علـّيـّيـن .
آمين ، يا رب العالمين .

صحيح البخاري ج/ 4
كتاب بدء الخلق ، / باب ما جاء في صفة الجنة



--------------------------------------------------------------------------------


قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الثامنة والثلاثون
موسى عليه السلام
دكتور عثمان قدري مكانسي


1) اُرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام ( ليقبض روحه) ، فلمـّا جاءه صكّه موسى
( دفعه بقوة ولطمه) .
لم يقبض ملك الموت روح موسى عليه السلام لمكانته ، فالأنبياء يُخيّرون في موتهم . رجع ملك الموت إلى ربه سبحانه يقول له – والله أعلم بما جرى - : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت .
قال تعالى : ارجع إليه فقل له : يضع يده على متن ثور ، فله بما غطّت يدُه بكل شعرة سنة ( تزيد في عمره )
قال موسى حين سمع ملك الموت يخبره بما قاله الله تعالى : أيْ ياربّ ؛ ثم ماذا؟
قال تعالى : ثم الموت . ..
كل نفس ذائقة الموت ، ولا بد مما ليس منه بد ، ولا يبقى إلا وجه الله الكريم سبحانه .
قال موسى : فالآن أريد الموت ، فما فائدة تأخيره إن كان حتماً لا زماً ؟ ولكنْ يارب أسألك أن تُدنيني من الأرض المقدسة رمية حجر .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت ثـَمّ ( هناك في الأرض المقدسة ) لأريتـُكم قبره إلى جانب الطريق ، تحت الكثيب الأحمر ".
2) تخاصم رجل من المسلمين ورجل من اليهود فاستبّا ( سب كل منهما صاحبه ).
فأقسم المسلم قائلاً : والذي اصطفى محمداً على العالمين .
وأقسم اليهودي قائلاً : والذي اصطفى موسى على العالمين .
فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهوديّ ، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو المسلم إذ اعتدى عليه ، وأخبره بما كان منه ومن المسلم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تُخيّروني على موسى أو قال : لا تفضّلوا بين
أنبياء الله ، فإنه يُنفخ في الصور ، فيُصعق من في
السموات والأرض إلا من شاء الله ، ثم يُنفخ فيه
أُخرى ، فأكون أول من بعث ، فإذا موسى آخذ
بالعرش ، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور
، أم بُعث قبلي "
3) وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
احتجّ آدم وموسى ،
فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنّة .
قال له آدم : أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، ثم تلومني على أمر قد قُـُدّر عليّ قبل أن أُخلق؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سرد ما قاله النبييان الكريمان :
فحجّ آدم موسى مرتين . ( كان جوابه مفحماً )
تشوق الصحابة الكرام لمعرفة هذين الأمرين ، فاشرأبّت أعناقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشرفون الجواب الشافي
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
المرة الأولى : أن آدم وصف موسى وصفاً رائعاً ( اصطفاه الله برسالته وكلمه ) فما ينبغي له إلا كلام الأنبياء .
المرة الثانية : نبهه إلى أن الإنسان يُلام على شيء فعله بملء إرادته ، أما خطيئة آدم فقد قدّرها الله عليه قبل أن يُخلق ، فلا ذنب له في ذلك .
مشيناها خُطاً كُتبتْ علينا ومن كُتبت عليه خطاً مشاها

صحيح البخاري ج 4
كتاب بدء الخلق –باب وفاة موسى
وباب قوله تعالى : " وإن يونس لمن المرسلين "



--------------------------------------------------------------------------------

قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة التاسعة والثلاثون
صورتان من المروءة
دكتور عثمان قدري مكانسي


قال الأب لابنه : كن من أصحاب المروءة ؛ يا بني .
قال الابن : وما المروءة يا أبتِ ؟
قال الأب :
المروءة آداب نفسانية تحمل مراعاتُها الإنسانَ على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات . من حازها كان رجلاً كاملاً ، ومؤمناً صادقاً ، لا يعرف من الشيم إلا أحسنها ، ومن الحياة إلا أشرفها .
قال الابن : جزاك الله خيراً ؛ يا والدي ، أفلا ذكرتَ لي بعض صورها ؟.
قال الأب : لك ذلك يا ولدي الحبيب .
أما الصورة الأولى : فقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حق أخيه موسى عليه الصلاة والسلام .
قال الابن : كلي آذان صاغية يا أبي ومعلمي ، فهاتها حفظك الله ورعاك .
قال الأب :
رأى عيسى عليه السلام رجلاً يسرق ، فألطف له في الكلام معاتباً ومعلماً ، ونبهه إلى أنه يراه يسرق ... فما كان من الرجل إلا أنه أنكر فعل السرقة ، وأقسم بالله كذباً ومَيْناً ، فقال : كلا ، والله الذي لا إله إلا هو ، ما سرقت .
إن لفظ الجلالة عند أصحاب المروءة وأهل الإيمان مقدس ، فلا يتصورون أن يحلف به الإنسان كاذباً ، وإن كانوا متيقنين من كذبه وسوء فعلته .
عندما سمع عيسى عليه السلام الرجل يقسم أنه لم يسرق تناسى تماماً هذا الأمر ، وقال كلمته التي تلقفها الدهر ، وكتبها بأحرف من نور في سجل سيدنا عيسى ، فصارت خالدة مدى الدهر :
" آمنْتُ بالله وكـذ ّبْتُ عيني "
قال الابن : ما أعظم أهل المروءة ، وما أرهف إحساسهم !.
قال الأب :
وصورة آخرى رائعة تدل على دقيق شعورهم .
هذا رجل كان في شبابه نبّاشاً للقبور ، يعتدي على حرمة الأموات ، فلما حضره الموت ، وتذكر ما كان يفعله أوصى أهله ، فقال :
إذا أنا مِتّ فاجمعوا لي حطباً كثيراً ، وأوقدوا فيه ناراً ، حتى إذا أكلت النار لحمي ، وخلصَت إلى عظمي ، فأحرقَـَتـْه فخذوا عظامي ، فاطحنوها ، ثم انظروا يوماً حارّاً شديد الرياح ، فاذ روه في اليم . ...ففعل أولاده ذلك .
إن الله تعالى القادر على خلقه من نطفة جمعه ثانية ، فقال له : لِم فعلتَ ذلك ؟ .
قال الرجل : من خشيتك يا ربّ ، لقد كان ذنبي عظيماً .
وعرف الله تعالى عميق إحساس الرجل بالذنب وخوفـَه من العقاب المرعب حين يقف أمام رب العزة القادر على كل شيء ، فغفر له وتلقـّاه برحمته .
اللهم ؛ يا رحمن؛ يا رحيم ؛ يا غافر الذنب ، وقابل التوب ؛ ارحمنا إذا صرنا إليك ، وتب علينا ، فررنا إليك من عذابك ، ولجأنا إليك من عقابك ، وأنت اللطيف الودود ..
أفر إليك منك ، وأين إلاّ إليك يفر منك المستجيرُ

صحيح البخاري
كتاب بدء الخلق
باب " واذكر في الكتاب مريم "




--------------------------------------------------------------------------------


قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الأربعون
أبونا آدم عليه السلام
دكتور عثمان قدري مكانسي


هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله أصحابه يسألونه عن الأنبياء الكرام وصفاتهم الخُلُقية والخَلْقية ، وعن أقوامهم ، ومن صدّقهم ، ومن كذ ّبهم ... ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجيبهم ، ويزيدهم ما ينفعهم ، ويشحذ قرائحهم ، ويقوّي الإيمان في نفوسهم ، ويُطَيـّبها .
قال عليه الصلاة والسلام :
خُلِق آدم وطوله ستون ذراعاً .. إنها قامة فارعة ، تسامق الأشجار العالية طولاً ، وتسمو على الحصون والقلاع ارتفاعاً .
قالوا : يا رسول الله ؛ فما بالنا أقصر منه بكثير ؟.
قال عليه الصلاة والسلام : لم يزل الخلق ينقصون جيلاً بعد جيل حتى وصلنا إلى ما نحن عليه .
قالوا : فكيف يكون المؤمنون في الجنة إزاءه عليه السلام والأجيال السابقة ؟.
قال عليه الصلاة والسلام : كل من يدخل الجنة يدخلها على صورة أبيه آدم .
ثم أردف قائلاً :
لما خلق الله تعالى آدم نفخ فيه الروح فعطس ، فألهمه الله تعالى حمده ، فقال : الحمد لله .
فقال له ربه : يرحمك الله .
فذهب الحمد والرحمة أدباً عالياً يعيشه المسلمون في مجتمعاتهم ، فيكون حمد الله ورحمته شعارهم ومآلهم ، فإذا عطس أحدكم ، فحمد الله فشمّتوه ، واطلبوا له الرحمة والهداية ، فهذا من سنّتي .
قال عليه الصلاة والسلام : ثم قال الله تعالى لآدم :
اذهب فسلم على أولئك الجلوس من الملائكة ، وقل لهم : السلام عليكم .
فذهب فسلم عليهم ( السلام عليكم ) ، فقالوا له : وعليك السلام ورحمة الله .
قال تعالى : يا آدم ؛ أوَعَيْت ردّهم ؟
قال آدم : نعم ؛ يا رب .
قال تعالى : فإنها تحيتك وتحية ذرّيتك .... إنك سلمتَ عليهم ، فردّوا عليك السلام ، وزادوك إكراماً ، فسألوني أن أرحمك ، فلك ذلك .
وقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم : " وإذا حُيّيتُم بتحية فحيوا بأحسن منها أو رُدّوها "
قال عليه الصلاة والسلام بعد أن رأى أصحابه منتبهين ، يتلقَّون كل كلمة بأُذُن واعية وقلب محبّ : ثم إن الله تعالى مسح على ظهر آدم ، فسقط من ظهره كلُّ نَسَمة هو خالقها من ذريّة آدم إلى يوم القيامة ، وجعل بين عينَيْ كل إنسان منهم بصيصاً من نور ، ثم قبضها بيده سبحانه .
قالوا : وكيف يقبض سبحانه الأمورَ بيده ؟.
قال عليه الصلاة والسلام : إن الله تعالى يقبض الأشياء كيف شاء ، متى شاء ، من غير تكييف ولا تمثيل – سبحانه – ليس كمثله شيئ ، وهو السميع البصير .
قالوا : آمنّا بالله سبحانه ، وتعالى ربنا عن الشبيه والمثيل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
قال عليه الصلاة والسلام : فقال الله ويداه مبسوطتان : اختر أيهما شئت .
قال آدم بأدب جم علمه إياه ربه : اخترتُ يمين ربي ، وكلتا يدي ربي
يمين مباركة .
فيبسط الله تعالى يده ، فإذا فيها آدم وذريته ....
قال آدم : أيْ ربّ ؛ ما هؤلاء ؟
قال تعالى : هؤلاء ذريتك .
وينظر آدم عليه السلام إلى ذريته ، فإذا كل إنسان مكتوب عمُره بين عينيه .
ويلوح له فيهم رجل من أضوئهم ، فيخفق له قلب آدم حباً ،
فيقول : يا ربّ ؛ من هذا ؟
فيقول الله عز وجلّ : هذا ابنك داود ، قد كتبت له عمُر ستين سنة .
فيقول آدم : ربّ ؛ زد في عمُره ؟.
فيقول الله تعالى : هذا ما كتبت له ، وقدّرت.
فيقول آدم : كم كتبت لي من العمر ؛ يا رب ؟
فيقول الله تعالى : ألف سنة .
فيقول آدم : أيْ ربِّ ، فإني قد جعلت له من عمري أربعين سنة .
فيقول الله تعالى : قد أجزت لك ذلك .
فيًقدّر لداود مئة عام .
كل شيء مقدّر ومكتوب ... صُنع الله الذي خلق كل شيء ، فأحسن خلْقه ، وأبدعه وقدّره ، وهو يفعل ما يشاء ... يمحو الله ما يشاء ويُثبت ، وعنده أمّ الكتاب .
قال عليه الصلاة والسلام : ويسكن آدم وزوجه الجنة ماشاء الله ....
ويشاء الله أن يبتليه بعد ذلك ، فيأكل وحواء من الشجرة المحرّمة ، ثم يهبطان منها .
فكان آدم عليه السلام يَعُدّ لنفسه عمرها ......
فلما أتاه ملك الموت يريد استيفاء روحه قال له آدم :
قد عجلتَ ؛ قد كُتب لي ألف سنة ، فها انت تأتي قبل أربعين سنة .
يقول له ملك الموت : بلى ، ولكنك جعلت لابنك داود أربعين سنة ، فصارتْ إليه .
فجحد آدم ما جعله لداود ، وكان جحوده نسياناً ، وورث أبناؤه صفات أبيهم ، فجحدوا كما جحد ، ونسوا كما نسي ، فأمر الله تعالى بالكتابة والشهود ليواجه بها جحود الجاحدين ونسيان الناسين .

1- البخاري المجلد الثاني الجزء /4/
كتاب : بدء الخلق
باب قوله تعالى
" وإذ قال ربك للملائكة ....."
2- سنن الترمذي ج3ص 52



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صغير بس خبير
مشرف
مشرف



ذكر عدد المساهمات : 460
نقاط : 626
السٌّمعَة : 0
المزاج : جيد جدا

قصص واقعية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص واقعية   قصص واقعية Emptyالخميس يونيو 24, 2010 12:14 pm

لبلاد الأحزان , استقبلونا بالابتسامات , و ودعناهم بالدموع



نسيم نجد


سكنت الشمس خلف خط المغيب , و لم يتبقى منها سوى بعض أشعتها الهاربة من وراء الأفق , فصبغت طرف السماء الملتقي بالأرض بشفق أحمر . الكون يستعد لوداع نهار مرتحل و استقبال مساء جديد , لحظات بسيطة حتى أسدل الظلام رداءه الأسود على الفضاء , معلناً بدء ذلك المساء , هو مساء الخامس من أيام شهر شوال من هذا العام , شوال الذي ودع فيه الجميع شهر الخيرات بقلوب ملؤها الأمل بالقبول , و الألم بالفراق , شوال الذي تضاعفت فيه السعادة , فالقلوب تنيرها أثر الطاعة , و الوجوه ارتسمت عليها ألوان الفرح بأيام العيد , لقد مضت الأيام , أيام رمضان و أيام عيد الفطر بعدما سبغت النفوس بالطمأنينة .

هذا المساء هو موعد زيارتي لبلاد الأحزان , حيث اتفقنا أنا و بعض أهلي أن نقوم بتلك الزيارة , ركبت سيارتي و انسللت من بين أطراف المدينة , عبر شوارعها الهادئة التي زينها الفوانيس المضيئة , و تسللت خلسة و لا يظهر على المدينة من مظاهر العيد سوى بعض الألعاب النارية التي يعبث بها الأطفال , فكانت مفرقعاتهم النارية تصعد إلى السماء , فيُحدث ضوءها المنتشر ثقباً نيراً وسط الظلام , فهي لحظات فما تلبث أن تختلط أضواؤها المتقطعة مع ضوء النجوم الخافت في السماء , وثم برهة فيسمع دوي أصواتها يمزق السكون الذي يخيم على البلد .

لم تكن مدينة الأحزان بعيدة , وأيضاً كانت الزيارة لساعات قليلة , في داخل المركبة كان الصمت هو سيد الموقف , و التفكير بتلك الزيارة يقطع علينا كل حديث , فتلك الزيارة جديدة علينا و لم يسبق لنا فيها خبرة , وبعد وقت قصير بدت لنا مدينة الأحزان , و هي مدينة وسط مدينة , يحيط بها أسور عظيمة , و أسواها لها أبواب , و لا أدري ما بداخل أو خلف ذلك الباب , هل الرحمة أو العذاب .من تلك البوابات تقف بوابة عظيمة قد زُينت بزخارف حديدية , و كسيت بقطع زجاجية , تحجب الرؤيا لمن خلفها عما تحويه تلك المدينة ببطنها . فوقفت أمام تلك البوابة , حتى انفتحت دفتيها , وقفت في الموقف المخصص , نزلت من سيارتي . و إذ باستقبالي المشرف على تلك المدينة , سلمت عليه و عرفته بنفسي و قلت اتصلت بكم من قبل و أخذت موعداً لمقابلتكم و معي بعض أهلي , فقال مرحباً بك في دار الرعاية الاجتماعية للمسنين و المسنات . و بعد الترحاب قام المشرف بالاتصال على قسم النساء لكي تدخل الأخوات إلى أخواتهن , ثم بدأ المشرف بشرح الأهداف من أقامة مثل هذه الدور , فهي دور قامت بالأصل لاحتواء من كبر سنهم فعجزوا عن القيام بخدمة أنفسهم , أومن فقدوا أهلهم و لم يجدوا من يعولهم , و لكن دخلت يد العقوق فصارت مسكناً لأعز الناس من أقرب الناس , فكانت عالماً من النسيان و سكناً للأحزان , في بداية هذه الزيارة طلب مني المشرف ( وفقه الله ) أن نبدأ بزيارة ساكني الدار قبل الجلوس و الحديث .

بدأنا الزيارة فكانت المدينة هادئة صامته , عُلقت في أطرافها عبارات جامدة , ولمكن ناطقة بالحزن و التساؤل , مررت بجانب الكثير من اللوحات التي تأخذ شيئاً من قلبي …فهناك لوحة تقول :

أبني هل نسيتني , إن نسيتني أنت , فمن سيذكرني ؟ كم طال علينا الانتظار , فهل نقطع حبل الرجاء , و ندفن الأمل .
كم نشتاق لكم فهل نسيتمونا ؟!
لا تنسوا , قلوباً قطعها الألم , و عيوناً أوجعها البكاء , و أنفساً ضاقت عليها الدنيا بما رحبت.
في الأمس سهرنا لتناموا و تعبنا لتنعموا , و اليوم سهرنا و تعبنا في انتظاركم , فهل تحين ساعة اللقاء و نسعد ببعض الوفاء.
سأظل أنسى العقوق , حتى تبصر أنت الطريق , أو يبصرني زائر الموت .
إن لم تسعدني بنظرتك فاسمعني صوتك.

مررت من بين العبارات , و كل عبارة هي خنجر يخترق جسمي , و كل كلمة هي طعنه ينزف منها قلبي , و كل حرف هي ضيقة تزحف لصدري , لقد كنا في أول أيام الشتاء , و الجو لا يخلو من نسمات باردة , وكانت الأشجار المحيطة بالمباني طويلة , وهي صامته , موحشة , كئيبة , منظرها يدل على أنا قد ملت من تلك العيشة الهادئة . فعندما تحركها النسمات يُخيّل للرائي و كأنها أشباحٌ قادمة من بعيد برداءٍ أخضر غامق . تتساقط أوراقها اليابسة متتابعة كأنها تود أن تصير إلى زوال و تختار نهاية لهذه العيشة المملة , فتقع تحت أقدامنا تلك الوريقات , فنطؤها فتتحول إلى فتات سحيق تذروها الرياح إلى خارج الأسوار , فتنجو من قبضة مدينة الأحزان , فرحة لأنها خارجة من هذه العيشة الضيقة التعيسة , فتغدو إلى عالم رحب فسيح , أشد رحابة و فساحة في أحزانه . تأملت مرة أخرى أرجاء المبنى فوجدت أن السكون هو أمامهم , فلا يسمع سوى وقع أقدام بطيئة لكهل قد هدت السنين من عمره , أو صوت عربية تحرك عجلاتها يد عجوز ترتعش من المرض , أو سعال كهل قد نال منه البرد , أو أنين من بعيد ينبعث من أحد الغرف .

السكون يسكن أطراف تلك الدار , و الليل يُلبسها جلباباً أسود بهيم , فاكتملت صورة التعاسة بأبشع صورة . أمسكت بيد المشرف في تلك الطرقات فكأني طفل يمسك بيد أبيه من الخوف , أو تائه يريد من يعيده إلى أرض الأمان . فأخذني المشرف بجولة على ساكني تلك الدار , مررنا بممرات مضاءة بمصابيح بيضاء وكل ممر يستقيم ثم ينعطف إلى اليمين أو إلى اليسار وكل تلك الممرات قد وزعت على أطرافها غرف النزلاء , أخذتنا تلك الممرات إلى وحدات تلك الدار . صوت المشرف الجهوري يجاهد من أجل أن يشق السكون وهو يشير إلى الوحدات و تلك الأقسام تلك , يصل صوته إلى مسمعي و لكن عقلي و بصري في مكان آخر , عيناي تنظران هناك , إلى مسن قد جلس على سجادة صغيرة , و أسدل شماغه على وجهه الذي رسمت عليه صورة مكررة من صور البؤساء في عالم الجحود و النكران , أرى ذلك المسن اتكاء برأسه على يده كأنما يريد من يداه أن تحملان شيئاً قليلاً من همومه . و استند بظهره إلى الجدار ليسنده في عجزه و ليساعده في حمل همومه التي قطمت ظهره , أو لعله يحميه من نسمات البرد التي لم ترحم ضعفه , و لا أعلم هل الجدار لو حمل هموم ذلك المسن فهل سيقف شامخاً أو يهوي من طوله ؟! أقبلت عليه , بادرته بالسلام فقلت كل عام و أنت بخير يا أبي , رفع رأسه ببطء , فأبصرني بعينين مغرورقتان بالحزن , فوضعت يدي بيده و قبلت رأسه , عرفته بنفسي , و أني زائر لآبائي في هذه الدار , وقد انتهزت فرصة العيد لأجلس معكم , و أسعد بلقائكم , نظر فكأنه يبحث في وجهي عن وجه يعرفه أو قريب يألفه , عاد بصره خائباً أن لم يجد من ملامحي في ذاكرته شبهاً , طأطأ رأسه , ثم دعا و شكر , ثم بحث بين صفحات حياته عن ابتسامة ليقدمها لضيفة , فلم يجد إلا صورة من ابتسامه باهتة , فانتشلها من بين ركام الأحزان , و من بين ما تحمل تلك السنين من الهموم , فارتسمت على وجهه , من ثغر قد أنسته الحياة كيف ترسم الابتسامات , فقدمها على طبق من حزن , حاولت أن أخرج من شقاء اللقاء , فسألته عن حاله , فنظر إلي بنظرة يغذيها قلب مؤمن بالله فقال : الحمد لله على كل حال , كررها و هو يهوي برأسه مرة أخرى على يديه , و يغيب وسط شماغه الذي يلتف على رأسه , ودعته بابتسامة حزينة , فودعني بتنهدات أخرجها من أعماق قلبه , تنهدات عصرت قلبي , و سكنت صدري , و زادت من برودة أطرافي .

أكمالنا المسير , فانحنى بنا الممر إلى الغرف المعدة للنزلاء , في مدخل الممر , كان هناك مسن يحمل جسماً نحيل يجلس على كرسي حديدي , قد وضع رجلاً على رجل , و لف شماغه على وجهه ثم أداره على رقبته , فلم يظهر من دائرة وجهه الصغير سوى عينان غائرتان , وسط وجه قد سكنت فيه أشكال متنوعة من الهموم و الأكدار , مر من جانبه المشرف فقال : يا أبا عبد الله هذا أبنك فلان - و هو يشير إلي - قد جاء ليبارك لك العيد , فقام على ثقل , فأمسكت بيده المرتعشة و قبلت رأسه , و سألته عن حاله , فهز رأسه , ثم فقال : تسأل عن حالي ؟! , فكأنه لم يصدق أن هناك من جاء ليزوره أو يسأل عن حاله , فوضع يده الباردة على خدي , فأخذ يتحسسه بيده , فأخذ يبحث فيه عن حنان مفقود , أو عطف دافئ يحرك الدم في جسمه البارد , وضعهما فكانت برودة أطرافه أشد من حرارة خدي , فزالت كل الحرارة في جسمي و لم تتغير برودة أطرافه , نظرت في عينيه وهو ينظر إلي فأخذ ينشد أبياتاً من الشعر , كأنما يخاطب أبنه , أو كأنما يتكلم مع نفسه المفقودة , كان صوتاً حزيناً كأنما هرب من قلبه المهجور ليبحث له عن قلب يتلقفه فيخبره عن حاله , لقد كان صوتاً جريحاً ملؤه الأنين , و تسكنه الآهات و ثقل السنين , كان بيني و بينه و هو ينشد لغة العيون , كانت نظراته إلي لا تنفك , يبحث في مساحة وجهي عن عذر للهجران من أقر الناس إليه , يسأل عيوني لماذا كل الناس يأتونني إلا أعز الناس إلي ؟! لماذا أنا أرقد هنا داخل هذه الأسوار الكئيبة و هناك يرقد قلبي خارج أسور المدينة يبحث عن أليفه ؟! لم أجد جواباً لأبيات شعره , أو رداً لنظرات بصره , فهربت بعيني عن عينيه , مخافة أن تسقط دمعة مني على يده , لقد فجرت كلماته مكامن الحزن في نفسي , و قيدت الهم أسيراً في صدري , وتمنيت أن تسيل دمعة من عيني تطفئ حرقة من مشاعر همي و ألمي , و لكن كل الدموع تجمدت من يده الباردة , و بدل أن تسيل قطرة على خدي نزفت في قلبي ألماً و حزناً على ذلك الشيخ المسن , فلما انقضت منه المناجاة , وحارت لغة العيون , و علم أن لا جواب لدي , خفت صوته و أنزل يده ببطء , و ودعته و لازلت أسمع صدى إنشاده يدوي في أذني , عاد إلى كرسيه الذي ألفه و حمله و حمل همومه معه , و دعته و ودعت وجهاً لم تترك فيه أصابع الزمان ملمحاً للسعادة , فقد ملأته بالأحزان التي رُسمت بيد تجاعيد الزمن و الأيام , و ركنت في أعاليه عينان قد أبيضتا من الحزن فهو كضيم , أظلهما حاجب تلون بالبياض لونتهما يد السنين السوداء , و دعته و لم يزل خدي بارداً من وضع يده , و قلبي نازفاً من وضع حاله , و جسمي مرتجفاً من أثر برودة أطرافه .

ذهبنا إلى أول الغرف , وتسمع من خلف الباب صوت جميل يحمل بين جنباته أنين و صوت حزين , طرقنا الباب , و لم يجب نازلها , أعدنا الطرق , أجاب النزيل أن أدخل , وجدت النزيل قد جلس على سريره متربعاً , بين يديه مصحفه الذي يتلو منه آيات من القرآن الكريم , يقلب بصره بين آياته و يمتعهما في سوره , هو أنيسه , و هو جليسه , و هو سلوته في غربته , هو العلاج الأكيد لمصائب الزمان , و هو الدواء لبلاء الجحود و النكران , يقرأ آيات الصبر فيزداد صبراً , يتمعن بالآيات التي تحث على البر فيزداد ألماً , أقبلت عليه و سلمت عليه معايداً , فسلم و أخذ يحكي يومه فيقول : أنا يومي بين الفاتحة و الناس , أقرأ , أتأمل , أتلذذ , أتفكر , أتمعن , من طلوع الشمس حتى تسقط خلف خط الغروب , نعم , نعم , أنيس و خير جليس و أكرم به من معين على نوائب الدهر , لم نرد أن نقطعه من هذه الخلوة التي تصله بربه , فاستأذناه بالخروج , فعاد كالنحل له صوت و أزيز جميل .

فخرجنا إلى غرفة بجواره , فإذا فيها مسن قد رقد على سريره و بيده ريموت الرائي , يبحث بين قنواته ما يجعله يخرج من أسوار هذه المدينة الحزينة , يبحث عن أخبار عالمه خلف الأسوار , كان له فيه ذكريات جميلة , كان له فيه طموح و أمل , كان له فيه موضع قدام بين أقدام المئات من ساكنيها , كان له أنفاس بين ألوف الأنفاس المنبثة في فضاءه , و اليوم , هو وغرفته و التلفاز فقط , لا , لا , بل يسكن معه رفقاء تلك الدار , الهم و الحزن و الكدر , في غرفته التي صبغتها الأيام بالسواد , وعلقت فيها الأستار فصارت كمشانق , و زينت بأثاث هي كلحود في مقابر , قد ملت عيناه من جدرانها و أثاثها و أستارها و تلفازها , بل ملت يده من هذا الجهاز الذي بين يديه فيقلب فيه القنوات لعله يجد ما يسليه , فيجد فيه حروباً و كوارث و مصائب كأنها إليها تناجيه , كأنما أرادوا أن يزيدوهم إلى همومهم هماً , دخلت عليه و هو يبتسم و خرجت منه و هو مبتسم , قد رضي بقدر الله فزانت نفسه باليقين و تعلقت برب العالمين , فرضي بما أصابه و آمن بالله و قضائه , خرجت من الغرفة و بدأ هو بالبحث عن قناة مفقودة لعلها تسكن بعض ألمه أو تنشر بسمة على محياه .

اتجهنا إلى غرفة بجانبها فإذا بصاحبها كهل قد استغرق بنومه فقد رمته السنين على سرير الأحزان , فلم أشأ أن أزعج منامه , لقد رحمت حاله , فو الله لكأني أنظر إلى طفل صغير قد فقد أمه , فأعياه البكاء فنام على فراشه , فلم يجد من يرفع رأسه أو من يغطيه من البرد بلحافه , لقد جمع جسمه و ثنى ركبتيه إلى صدره , فصار كعصفور بلله الماء فأخذ يرتعد من البرد , فنظرته بحسرة و اسأل الله أن ينظر إليه برحمة , إلهي أرحم ضعفنا و ضعفهم , و أجبر كسرنا وكسرهم , و أمدهم بصبر و يقين و فرج منك يارب العالمين .

خرجت من تلك الغرف و مررنا على البقية و كل غرفة منها تشهد مأساة , و كل مأساة تغرس خنجراً في صدري ينزف منه دماً , لقد سكن الهم معهم , وجاورهم الحزن في غرفهم حتى ألفوه , فأصبحوا يتنكدون يومهم إن غاب عنهم , لقد سكن صدورهم فأصبح هو صباحهم و مساؤهم , هو نفسهم الذي في صدورهم , هو نبضهم الذي في قلوبهم , هو زائرهم الذي لم يخن العهد معهم , لازمهم في حياتهم الأولى و لم يتخلى عنهم في بلاد الأحزان , لقد خانتهم السعادة فلم تطرق لهم باباً , و خانهم الأمل فلم يبن له شعاعاً , و خانهم التفاؤل و لم يصل لهم مراداً , خانتهم كل الأشياء الجميلة , و تبقى الحزن هو الوحيد الذي لم يخنهم , لقد كان الحزن بسمتهم , و الحزن بكاءهم , و لازمهم و عاش معهم , حتى صار ملء عيونهم و سمعهم و قلوبهم.

خرجت مع المشرف و أحس بشيء يهد كياني , أحس بوحشة من عالمي الذي من حولي , أحسب بخوف من مجتمع أعيش بينهم , أحس أني صاحب خديعة و أحس أني قد شاركت بالجريمة , لقد اجتمعت هموم هؤلاء كلهم في قلبي , فأصبحت ضائق النفس , شديد الكرب , ضاقت علي دنياي بما رحبت , فكأني أتنفس من ثقب إبرة , مُسحت كل الأشياء الجميلة التي تختزلها ذاكرتي , حتى دموعي تجمدت في محاجرها , و بدلاً أن تسيل على خدي , نزلت إلى قلبي فكانت أساً وحرقة و ألماً وحزناً .

أدخلني المشرف إلى مكتبه فشكرته على مجهوده و أثنيت على إخلاصه , و أسهب بالحديث عن الدار و أهلها , عن الدار و ألوان الحزن الذي يرسم في وجوه ساكنيها فصارت وشماً واضحاً عليهم , تمر عليهم الأيام لا يميزون أيامها , إلا بمغيب شمسها أو خروجها من مشرقها , كل الأيام سواء , فلا يفرقون بين سبتها إلى جمعتها إلا عندما ينادي المنادي لصلاة الجمعة , كل الأوقات واحدة , فأول النهار و آخره سواء , فعقارب الساعة تدور بلا فائدة , و الوقت هناك بلا ثمن , الوقت هناك كالسيف كل جزء منه يُقطِعُك أرباً أرباً, يقطع قلوب ساكني تلك الديار أجزاء , كل جزء يقطعه يزيد من همه و يبعده عن أمله , لقد ملوا من حساب السنين و الأعمار , و ملوا من طول الانتظار , فأول الشهر و آخره و أول السنة و آخره كلها نسخ طبق الأصل , كلٌ قد سكن غرفته و يقلب ماضيه , و ينظر إلى مستقبله الذي يسير ببطء , فمتى تنصرم أيام العمر و ينتهي هذا الهم , و متى تنزاح أثقال السنين و يصل الأجل , لولا إيماناً يقويهم لتمنوا الموت أو لسعوا إليه , حالات متفرقة و أوضاع غريبة , منهم الأب الذي سالت دمعته من عقوق أبنائه , لازمهم و لاعبهم في صباهم , سالت دموعه عليهم في شبابهم , تفطر قلبه وجداً عليهم , كانوا كل أمله و مبلغ أحلامه , أمنيته في حياته بسيط , هي ابتسامة من ثغر طفله , كل آلامه هي صيحة من وجه صغيره , سهر الليالي و تذوق العلقم و تحمل المآسي من أجله , و من أجل أن يصير له ابناً يشد من عضده و يسنده عندما يبلغ كبره , فكبر الابن , نعم كبر , و ظن الأب أنه حان وقت الراحة , قد حان وقت الحصاد و الأمل , فكان الابتلاء من الله لهذا الأب على أن صار إلى هذا الدار , لماذا وبأي ذنب , فلا جواب إلا أنه أصبح شيخاً مسناً لا يستحمل و لا يطاق , و هي قصة تتكرر في كل دور الرعاية , تتكرر بصور مختلفة , تتكرر من الأبناء و الأقرباء و المجتمع بالكامل , ناهيك عن قصص أخرى و جدتها هناك , فمنهم من عاش في هذه الدار بعد أن حل الشيطان بين أبيه و أمه , ففرقتهم الخلافات الزوجية , فصار كلاً منهما إلى سبيل , و ضاع ذلك الابن في زحام الحياة , و وسط أنانية زوجين كلاً يبحث عن رغباته , و كلاً يقتل فلذة كبده من أجل نزوة بسيطة , فشب الابن و شاب و هو من دور رعاية الأيتام إلى دور رعاية المسنين , فا الله نسألك رحمتك فينا و في إخواننا و نسألك لطفك و عطفك , و أن لا تنزعهما منا.

هناك من كان ضحية الإهمال , فضاع في طرقات الحياة , فأصبح مدمناً في أول حياته , مرمياً في السجون في شبابه , و فكانت نهاية المطاف دور الرعاية.

هناك من أغلق عليه غرفته من سنين فلا يسمح أن يدخل عليه زائر , أو يمر عليه قريب , أو يرى أي شخص مهما كان ماعدا المشرف , يقول المشرف : لقد حاولت أن أقنعه بفائدة تلك الزيارات , و أنها تخفف المصاب و تزيل بعض الهم , فقال دعوني لهمي و لحزني , فكل من حولي لم يذكرونني و إن ذكروني فهم يخجلون مني , دعوني في غرفتي حتى يقضي الله أجلي.

سألت المشرف : عن أطول المقيمين في دار الرعاية , فقال رقماً أصابني بمقتل , قال هناك أحد الأشخاص قد عاش في هذه الدار منذ 35 سنة , يا الله كل هذا العمر هنا بين جدرانها الصامتة , و بين ممراتها الكئيبة , و في غرفها الحزينة , لقد مر علي عمري بالكامل , مر علي عمري أيام طفولتي , و أيام شبابي , و بعد زواجي , فكل هذه الأيام هو يسكن هنا , و أنا في حياتي عنهم غافل , و في طرقاتي سائر , و في أيامي لاهي , بعدما قال لي ذلك الرقم سكت و في الحلق غصة , و في العين دمعة , و في القلب ألف أساً و حرقة , سكت و لم يسكت المشرف فقال : هل تصدق أن بعض ساكني الدار يخرجون من عندنا ليعشوا مع المجتمع مرة أخرى , ثم تستحيل عليهم الحياة هناك فيعودوا من جديد إلينا , لقد تنكر لهم كل شيء في خارج أسوار مدينتهم مدينة الأحزان , لقد تغيرت صورة كل شيء هناك , في فضاء من يدعون أنهم يعيشون عيشة السعداء , لقد صارت مدينة الأحزان أحب إليهم من حياتهم الأولى.

لم تنتهي الزيارة لكن خفت أن أطيل على المشرف الذي أتعبه العمل , فاستأذنته و ودعته , بعدما قبلت رأسه و شكرته على جميل صنعه مع أخوتنا هناك , ركبت سيارتي و ركبت زوجتي و أخواتي , وخرجت من دار الأحزان , إلى عالم النسيان و النكران , خرجت بسيارتي إلى عالمي الذي خنق أنفاسي , خرجت إلى المجتمع الذي يحوي بين جنباته ابن عاق , و عشيرة متنكرة , و مجتمع لم يرحم , كان الصمت يخيم على الجميع , كأننا كنا في حلم أو كأننا بدأنا نعيش وقائع مؤلم , بل أحس كأننا كنا ممن شارك في هذه المأساة , بدت لي الدنيا غريبة , كل شيء في ناظري تغير , فلا السماء سمائي و لا الأرض أرضي و التي أمشي عليها في سالف أيامي , و لا الهواء هوائي الذي أستنشقه يومياً رطباً نقياً ينعش حياتي , إن نسماته تكاد أن تخنقني , و حتى الوجوه التي حولي وكنت أعرفها و آلفها , قد تغيرت في عيني . لقد تأرجحت في قلبي كفتي الميزان , فاختلط الحق بالباطل , و صار كل شيء ضبابي بهيم . اختَرقتُ جموع السيارات و لا ادري كيف مررت من بينهم , كل الذي يتظاهر أمامي هو مناظر آبائي . لقد خرجنا من تلك الدار , بل لقد خرجنا من ذلك الحلم الموحش , خرجنا و الصمت يخيم علينا , فقلت بتثاقل لأختي كيف أخواتنا هناك ؟ فأجابت أختي بعد صمت , و ها أنا ذا أصمت مثل صمتها , فأخاف عليكم إن ذكرت وضعهم أن أسقيكم المر , و أن أذيقكم العلقم , أو أن أجرعكم الحسرة و الندم على من في الدار , بل سأقتصر على الإشارة و التلميح من بعيد كما فعلت مع إخوتنا الرجال , يكفي أن أحداهن قد لبثت في هذه الدار 38 سنة , و أن اثنتين منهن قد ودعتا الحياة قبل رمضان , ولم يكن بجانبهن من يؤنسهن في لحظات الوداع , أو يرمقهن بنظرات الحنان , أو يتلمسهن بيد العطف , أو يذرف عليهن دمعة , أو يئن لغصص الموت عليهن أنه , إنها حالة بئيسة تلك الحالة , أن تخرج من هذه الدنيا و أنت تفقد الأمل برؤية أحبابك الذين تتمنى أن يكونوا بجانبك ولو بساعة الفراق , أن تسقط آخر ورقة من أوراق التلاق , أن نموت و يموت الأمل , إنهم يموتون ويصيرون إلى غربة , و قد كانت حياتهم كلها غربة , ربي رحماك بهم , ربي رحماك بهم , ربي رحماك بهم . لقد كانوا يتمنون أن يشاهدوا الأحباب قبل أن تشخص الأبصار , لقد كانوا يتمنون أن تفرح قلوبهم قبل أن تسكن نبضاتهم , لقد كانوا يتمنون أن تلامسهم أيديهم قبل أن يلامسهم الموت , إنها لحظات عصيبة تمر عليهم , من يدمع على فراقهم , من يترحم عليهم , بل من سيُنزل الجفون على العيون بعد أن تشخص من شدة الموت الأبصار , فهل هناك أصعب من أن يتمنى إنسان أن يجد أحداً بجانبه وهو في لحظة الفراق فلا يجده ؟ هل هناك أكثر أقسوة من أن لا يجد إنسان من يمشي في جنازته ؟ هل هناك أشد من أن تتمنى أن يذكرك أعز الناس إليك لكي يحثوا التراب عليك ؟ و أن يحضروا مواراتك عن العيون , و أن يضعوك ببيت الدود , حتى تغيب عن كل أمل و تصير إلى قبر و لحد , و تكون من سكان قبور الآخرة بعد أن كنت من سكان قبور الدنيا . و والله لا أعلم هل كانت سكرات الموت عليهم أكثر كربة أم سكرات الحياة أكرب , هل غصص الموت أصعب أو غصص النكران أصعب , هل التفاف الساق بالساق أثناء الممات اشد أو صدود الأهلون و الأقربون عنهم أشد و أدهى و أعظم و أمر . لقد جاءتهم سكرات الموت التي كانوا يتمنونها , لقد حل عليهم اليوم يومهم الذي كتب لهم , لقد حضر إليهم الموت فوجدهم قد خنقتهم الحياة قبله , لقد جاءهم ليقبض أرواحهم فوجد أجساماً بلا روح , لو نطق الموت لترحم عليهم من حالهم . لقد خلت الدار من رقم ساكن حسبوا أن ليس له في المجتمع اعتبار , لقد قيد في عداد الموتى , و انتهت قصة من قصص الجحود و النكران , فضاق الحزن بموته فهو الذي كان يؤنسه , فمن للحزن بعد موت الحزين من صديق يسليه , و من للهم بعد موت المهموم من خليل يتسلى فيه , كم حبست جدر تلك الدار من الآهات التي و صلت إلى كل مكان و لم تصل إلى الذين يجب أن تصلهم , لقد أحس بها كل جماد و لم يحس بها كل من أغلق الله قلبه و صارت إلى خسران , هي الأيام تنقصهم و لا أحد يدري عنهم .

تقول المشرفة أن هناك الآن على السرير الأبيض ترقد امرأتان , فلا يعلمن هل إلى الدار ترجعان أو إلى المقبرة تسيران , و لعلي أكتفي إلى هنا فو الله إن في دار النساء لقصص أخاف أن تشيب لها الولدان و أن يسكن قلوبكم الهم و الحزن من ذكرها , لقد ودعتهم وعيون الآباء تقول :

لقد سقيتني كأس المر , من كأس قوتك الزائفة ابني لقد بذلت عمري كله لك و أنا سعيد , فأكمل سني عمرك سعيداً من حساب أحزاني الوافر .
لقد كنت ابحث عن سعادتك , فوجدتها أنت بتعاستي .
في كل عمري كنت آخذ من سعادتي لأسعدك , فلما انتظرت رد الدين , وجدت أنني قد أقرضت إنسان غير وفي .
ابني لقد لان ظهري و أنعكف , و نزلت أجفاني و ارتخت , و غاب بصري و من الدمع قد جفت , فهل يكفيك هذا يا ابني , و تعود وتفرح قلبي .
ابني لعلك لا تعلم أنني من أن سكنت هذه الدار , و جاورت الأحزان , لم يكن لي مصدر للسعادة إلا هي تلك اللحظات , التي أتذكرها و أنا ألاعبك , أو أضاحكك , أو تبكي و أحاول أن أسترضيك , كم أنا مشتاق إليك .
زارني زائر المرض , فذكرت بسمتك فهان مرضي , و زارني زائر الهم فذكرت دمعتك فهان همي , و زارني زائر الموت فلم أجدك بجانبي ففاضت روحي قبل يومي .
أسمع من خلف الأسوار أصوات أطفال , فأتذكرك صغيراً , و أسماع صوت أب ينادي لأبنه , و أبتسم مسرورا و أرى بيني و بينك سورا , فأنقلب حزيناً مكسورا .
ابني إن بلغتك حالة وفاتي , و ضمت الأرض رفاتي , و قادتك دنياك يوماً لتذكري , فتذكر إنني رعيتك و كل أملي أن أراك مسرورا , فسر بحياتك مسرورا , فرغم الذي كان منك فأنا أسامحك في حياتي وبعد مماتي .
ابني لقد صرت اليوم إلى أيدي غرباء يقلبونني , و قلوب أناس لا يعرفونني , و قد كنت أقلبك بيدي , و أنزف عليك من قلبي , بُنيّ فلا تكلني لهم فأنا لا يزيدني رعايتهم لي على جهدهم سوا ألماً , فأنا أفقدك و افقد روحي معك في كل يوم .
بُنيّ لقد ذقت من مآسي الحياة ألواناً , و من كربها أصناف , و أشدها قسوة هي يوم أن وضعتني هنا و غبت عن ناظري , فارحم قلباً ينبض بلا دم و صدراً يثور بلا نفس , و إنساناً يتحرك بلا أمل .
ابني لقد مللت من جدران الصمت , و فراش الموت , و أصوات السكون , فكلها تقتلني و تجعل جرحي ينزف كل يوم , فلا هي تقضي علي بقتلة واحدة و لا هي ترحمني و تلتئم , فإلتأمها جميعاً بصوتك , و رؤية وجهك . فهل ألمحك و لو من بعيد ؟ يارب إن كان هذا ابتلاء فقد صبرت سنين , و إن كان جزاء بمعصية فلك أتوب و أجعلني عنها من الراجعين , و إن كانت بسبب قسوة في قلب أهلي , فاللهم لا تحرمني منهم و ردهم لي سالمين و أجعل قلبوهم لي تلين .
لقد كانت هذه نظراتهم و هذه نداءاتهم فكلها عطف رغم الجحود من الكثير ممن حولهم , و لكن هل تلين قلوب العصاة و يعودون لصراط رب العالمين .

قال تعالى :
“وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاها فلا تقل لا أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ” ، الاسراء:23،24 في الختام :
لقد كنت متردداً بكتابة هذه الزيارة , و لكن نفذ صبري , عندما سمعت أن امرأة تسأل في أحد القنوات , و تقول : أرشدوني ماذا أعمل بأم زوجي ؟
فأقول الجواب :
اعملي ما شئت , هو عمل يدك , و نتاجه ستحصدينه في سني عمرك القريبة , إن خيراً فخير , و إن شراً فشر , هدانا الله و إياك و أرشدنا للحق و جعلنا به عاملين .
و أقول لكل زوج كن معيناً لزوجتك على بر آبائها و أهلها .
و لكل زوجة كوني معينة لزوجك على البر بآبائه و أهله .
فإني أشد ما أخاف منه أن يأتينا العقوق من أنفسنا .
و إلى كل ابن لفظت شفتاه كلمة العصيان و قال لوالديه : أف , أقول عد قبل أن يفوت الأوان , وتصير إلى خسران .
انتهت الزيارة و بقي الألم .



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صغير بس خبير
مشرف
مشرف



ذكر عدد المساهمات : 460
نقاط : 626
السٌّمعَة : 0
المزاج : جيد جدا

قصص واقعية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص واقعية   قصص واقعية Emptyالخميس يونيو 24, 2010 12:16 pm

سلسلة { اعترافات فتاة } (3)






سلسلة { اعترافات فتاة } (1)
سلسلة { اعترافات فتاة } (2)


- 16 -

كلمة لم أقلها.. بابا!



في صباح يوم مشرق وداخل مدرستي العزيزة.. أطلق اسمي في جنباتها..
(منى صالح) .. الطالبة المثالية..
كم كانت السعادة تغمرني في تلك اللحظة والأمنيات تتراقص أمامي.. فبادرتني (سمية) بقولها..

- هنيئاً لك يا منى.. وما أسعد أبيك بك...

كلماتها تلك ترددت عليَّ فأدمت جروحاً غائرة، فهي لم تكن تعرف أني لا أملك أباً كغيري من الناس، وكم مرة تمنيت أن أقول (بابا).

أغمضت عيني فتذبذبت أمامي صور شتى بين الإغفاء واليقظة.. كنت أنزف حنيناً إلى أيام نائية وآمنة أستعيد فيها طفولتي معه.. لكني أعود خالية اليدين.. فقد غابت السعادة عن حياتي لتغادر معه عبر مسافات بعيدة تركني فيها وحيدة.. أعانق أحزان حياتي طوال تلك الليالي.. وحاولت احتضان خياله والاحتماء به من قسوة الأيام..

القلق يسيطر على مخيلتي وأصبحت لا أملك سوى ملف ذكريات حزين.. أسترجعه كل يوم ورقة ورقة.. فكل قطعة من جسدي تشتاق إليه.. فكم تمنيت لو استطعت أن أقاسمه عمري ليعيش معي.. العجيب أن توقفي عند هذه الحقيقة استولى عليَّ حتى بلغت درجة الانشغال عن حالي فشعرت كأن أبواب الحياة قد أغلقت في وجهي.. وعزفت عن المتع... وانعزلت حزينة زاهدة.. حيث قررت أن أضع ستاراً حديدياً بيني وبين أفكاري..

أعادت أمي عليَّ السؤال، وهي تربت على كتفي وتقول: منى ماذا بك؟

- أبي.. أين هو؟

فأجابتني وهي واجمة..
- ما الذي ذكرك به؟ وهو قد توفي منذ كنت رضيعة..

فرددت بلهجة باكية..
- وهل تتوقعين أني نسيته طوال هذه السنوات... إني أراه كل يوم.. أريد أباً..!

صعدت إلى غرفتي وألقيت بجسدي على سريري وعبراتي تنهمر بحثاً عن إجابة لما أنا فيه...
فشاهدت أمامي رجلاً يقول:
- السلام عليك يا ابنتي.. تبكين عليَّ؟.. لست أول من رحل.. ولا آخر من يودع الحياة الفانية.. لست الوحيد في العالم الذي سلم الروح إلى بارئه بصمت.. ولست أنت الوحيدة التي فجعت بوفاة والدها.. ولست وحدك من تبكي على عزيز افتقده بل هناك الكثير.. والكثير ممن يمتحن الله إيمانهم في هذه الدنيا..

ثم تابع يقول..
- جففي دموعك.. ولا تحزني.. ولا تتأسفي.. أعلم يا ابنتي أن دموعك صادقة وعبراتك مخلصة.. وحزنك عميق.. فقد افترقنا منذ أن كنت في مهد الطفولة، ولم يخطر ببالك هذه الأحداث.. يا بنيتي جففي دموعك فالدموع أوهن من أن تهدم شيئاً.. ولكنها تهدم صاحبها.. ولا تقولي سوى.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. فتحن نموت ونندثر فننسى.. ولا يبقى منا سوى الذكريات وأعمالنا الصالحة..

كان كلامه يدخل إلى أعماق قلبي العطشى فيرويها.. وأنا أنظر إليه بشوق.. فأكمل مبتسماً..
- أعلم أنك تحلمين بي.. وتودين رؤيتي.. إذاً أسرعي وتبتلي إلى الله بالدعاء ولكل مسلم ومسلمة وافاهما الأجل أو هدهما المرض.. بنيتي.. لن أقول الوداع.. ولكن إلى اللقاء في يوم لا ظل إلا ظله بمشيئة الله..

ثبت إلى وعيي بعد ذهول المفاجأة فشعرت بصدري يضطرم وبدمعي ينهمل.. وكل جوارحي تردد (اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ماضٍ في حكمك عدلُ في قضائك.. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري وجلاء همي وذهاب حزني).

= = =

والآن سنزيح الستار عن مشاركة جميلة خطتها قارئة متميزة.. وهي رغم بساطتها إلا أنها تفوق بعبق البدايات الجميلة وتلمع كسنابل أينعت للقطاف

سأكون أصلب من حجر
شذى الحميد

كان كل شيء هادئاً كما اعتدت عليه.. والغرفة كما هي باردة.. الستائر منسدلة وكل شيء مبعثر في الغرفة الملابس والكتب والدمى.. نظرت بصمت إلى الأشياء المبعثرة.. أوصدت الباب بقوة وأنا محملقة في الغرفة أبحث عن جواب لأسئلة ظلت تلح علي منذ زمن بعيد..
جلست على السرير منهكة.. أسندت ظهري للجدار وتاهت الأفكار في رأسي.. ليتني أستطيع أن أنام.. أحس أن حشرجة ومرارة تغص في حلقي.. أبتلع الدموع وأشعر بمرارتها.. أنظر إلى المكتبة التي تغص بعشرات الكتب.. ولكني لا أقوى على القراءة في مثل هذه الحالة.. فبالي مشغول بما هو أهم..


في هذا المساء الدافئ يسافر وجهي بعيداً.. كنت أظن أن الحياة قد بدأت تنثر ورودها على وجهي بعد طول صبر.. ولكني لم أنل إلا مزيداً من الصفعات... كانت بريئة حينما تلقيت الصفعة الأولى ثم أتت الصفعة الثانية وتوالت الصفعات.. حتى اعتاد وجهي على الصفعات كجزء لا يتجزأ من روتين كل يوم..

قاسيت مرارة الحرمان وأنا في سن صغيرة.. ثم التقيت به وأنا في أشد حالات ضعفي فيما يسمى (شات) فتشبثت به كالغريق الذي يعلق أمله في قشة..
تشبثت به وأنا لم أفهم بعد معنى الحب.. كل ما كنت أفهمه أن في شخصه ما يشدني ويجذبني إليه.. هذا الرجل الذي سمح لنفسه بمناداتي (حبيبتي) .. وكانت المرة الأولى التي أنادى بهذه الطريقة على لسان ذكوري.. وأخذ يغدق علي بسيل من العبارات الرقيقة المسبوكة بدقة محترف..
لا أعلم أكان حبي له حقيقة أم مجرد إعجاب برجل ساقته الأقدار في طريقي..
الهدوء يعم المكان.. يساعدني على الاسترسال في التفكير.. فقد نامت عيون الجميع إلا عيني اللتين أتعبهما السهاد.. تسرب صوت المؤذن داخل غرفتي ليحرك مشاعري من جديد.. رددت النداء معه كلمة.. كلمة.. حتى شعرت بالراحة.. صدقت أختي حينما قالت أنه لا راحة توازي الراحة الحاصلة بعد سماع صوت المؤذن وقت الفجر.. والناس نيام.. وأنا وحدي متيقظة أتفكر به وبوضعي ثم أردد النداء بعد المؤذن.. أشعر برعشة تسري في أوصالي وأطراف أصابعي .. رعشة غريبة.. رغبة جامحة في البكاء.. هل هذا ما يسمونه بالخشوع.. أم أنها رغبة في البكاء لا أكثر.. أبكي.. لا لن أبكي عليه.. فهذا بكاء الندم والتوبة عما فات..
لن أنكسر بسببه فأنا بحاجة إلى كل ذرة قوة..
يجب أن أساند نفسي وأمدها بجرعات من القوة والإيمان..
عليَّ ألاّ أتركها تتوه في غياهب الحزن وحدها لتتمكن منها.. ثم لأجل من كل هذا البكاء؟؟ لرجل لا يكن لي قطرة من احترام.. لرجل لا يهمه من أمري سوى طولي ووزني وجمال صوتي وكمية التنازلات التي سأقدمها له.. لرجل يرى أن جميع النساء في النت سخرت له ولأمثاله.. لرجل يعتقد أن كل من تدخل عالم النت هي متحررة من القيم يحل له إقامة علاقة معها بكل بساطة..
كلا.. غيابه لن يؤثر عليَّ إلى هذه الدرجة.. فقد أرشدني الله من حيث لا أحتسب.. ألهمني الرشد حينما صرخت في وجهه وقلت لأول مرة
(لااااااااااااا) حينها ظهر على حقيقته نزع عنه ستار الحب والعطف والرحمة.. ظهرت لي أنيابه.. لم يتوقع مني هذه الصحوة المفاجئة.. هزه اعتراضي.. أغضبه صدودي وامتناعي.. بدأ بالتكشير والصراخ.. ثم حاول تلطيف الجو بتمثيل الحب والغرام مرة أخرى.. ولكني استيقظت أخيراً.. ولن يعود قادراً على خداعي مرة أخرى.. لقد رأيت ما فعله بغيري بأم عيني وسمعت آلاف القصص من أفواه فتيات ذقن أقسى الآلام نتيجة لتصديق كلامه المعسول.. عندها قرر الرحيل.. عله يجد ضحية أخرى تكون أكثر سذاجة مني..
قال لي بكل وقاحة بعد أن لمس حجم التغيير الذي طرأ عليَّ وقرأ عبارات الاحتقار بين كلماتي (أنت لم تحبيني قط ولن تحبي أحداً لأنك امرأة بلا مشاعر ولا تفهمين معنى الحب.. أنت أشد برودة من الثلج.. أنت كالحجر في صلابته.. فهنيئاً لك هذه الحياة الخالية من المشاعر..! وأنا متأكد من أنك ستتجرعين مرارة الحرمان من بعدي وستكون حياتك أشبه بالموت البطيء منها بالحياة.. فوداعاً يا من خدعتني بزيفك وسذاجتك المصطنعة.. يا من تحاولين الآن تمثيل دور المرأة العفيفة أمامي الآن بعد أن سقيتك من كأسي أياماً طوالاً.. فقد مللت مني الآن وحان الوقت للبحث عمن يقدم لي شيئاً آخر لم أستطع تقديمه لك.. فلا تحاولي إقناعي بصفاء سريرتك.. فكل فتيات النت سواء.. كلهن يدعين الصلاح والحياء.. وهن بعيدات كل البعد عن ذلك.. يدعين الدين والاستقامة وأنها أول علاقة لهن! اذهبي فلن أطيل عليك.. الله يوفقك بالحبيب الجديد!)

لكن سأنسى أمره وأعيش حياتي بلا مشاعر... ولكن هل أنا حجر فعلاً حتى أعيش بلا مشاعر؟
هل أنا ثلج كما قال؟

لا لست حجراً.. قال لي يوماً بأني حجر.. أشارك الجوامد بخواص كثيرة.. قال إني غير كل النساء.. ليس لدي مشاعر ولا أحاسيس.. أعلم أنه لا يؤمن بما قاله لسانه.. وأنه ما أطلق علي هذا الحكم الجائر إلا لمعرفته بطبيعتي العاطفية الرومانسية وبطيبة قلبي.. فأحب أن يؤثر علي بهذه الكلمات علي أتراجع عن قراري وأخضع لمطالبه..

فلو كنت حجراً كما يقول لما تفكرت بكلماته كل هذه الأشهر..
لو كنت حجراً لكنت عرضت سمعتي وسمعة أهلي للسوء بمثل هذه العلاقة المشبوهة.. لو كنت حجراً لكنت وافقت على بناء سعادتي – إن كانت سعادة – على تعاسة الآخرين وأولهم أهلي ثم زوجته التي لم يفكر يوماً في أمرها..

قال لي بأني حجر لا يعرف عظيم المشاعر التي يعج بها صدري فأراد أن يثيرني بكلماته القاسية.. ونجح بذلك.. لكني فهمت الدرس جيداً.. واقتنعت بأني سأكون أكثر صلابة من الحجر إن بعت نفسي وتخليت عن ديني من أجل شخص مثله..

- - - - - - - - - -
الندية شذى.. مشاركتك جميلة وتبشر بموهبة واعدة إن شاء الله..
القصة تدور في موقف واحد تتداعى فيه أفكار البطلة وهذا أسلوب فني جميل ومتجدد ويبتعد عن السرد المتسلسل التقليدي للأحداث، كما أن القيمة التي تحويها سامية جداً.. وكذلك اللغة كانت سليمة تقريباً.. أنصحك بالقراءة المكثفة لتطوير موهبتك.. كما أتمنى أن تنتبهي لحدة بعض الألفاظ والتي قمت بتغيير بعضها حتى لا تؤثر على سلاسة النص الجميل.. استمري في القراءة أكثر.. ونحن ننتظر إبداع يراعك النقي..
رد خاص للأخت الغالية من الدرعية والتي لم أجد اسمها: لقد أتحفتيني بكلامك الرائع.. أشكرك كثيراً.. وسأزور الدرعية قريباً إن شاء الله..
نوف
- - - - - - - - - -

**
مجلة حياة العدد (48) ربيع ثاني 1425هـ



--------------------------------------------------------------------------------


- 17 -

فقط هناك لا يوجد ألم



أهدي هذه القصة لطالبة
عزيزة.. أحبها في الله.. وإلى
كل الفتيات اللاتي يشتكين
من آلام حياتهن..


ها هو أول يوم في العطلة يبدأ..

الطالبات يخرجن من قاعة الاختبار تتطاير السعادة من أعينهن لانتهاء العام الدراسي وانتهاء همه وتعبه.. فقد بدأت العطلة أخيراً.. وقت الحرية والراحة والنوم..

الكل فرح ويقفز ويضحك.. إلا أنا..

خرجت من قاعة الاختبار واجمة.. أشعر أن كل هموم الدنيا ترزح على قلبي..

أخذت أسير بتثاقل وأنا لا أعرف ماذا أفعل من شدة الحزن والغم..

لم تكن مشكلتي تتعلق بالدراسة فأنا ولله الحمد متفوقة ولم أخش يوماً الرسوب..
كان همي في عالم آخر.. عالم من الهم والأحزان يبدأ كل عام مع آخر يوم من الاختبارات النهائية.. إن ذلك يعني لي.. موعد الذهاب لبيت أبي..
فأنا أعيش عند أمي منذ انفصالها عن أبي.. لكنه يأخذني إجبارياً كل عام طوال الصيف لأعيش معه ومع زوجته وأبنائه..
وبسبب ذلك أصبحت العطلة الصيفية مصدر قلق وكآبة لي.. وأصبح انتهاءها سبباً لفرحي وسعادتي..

كنت أسحب قدميَّ بصعوبة والدموع تكاد تنهمر من عيني وأنا أسارع بالخروج.. كان علي العودة للبيت لآخذ أغراضي ثم أذهب لبيت أبي..

حين دخلت البيت كانت أمي في المطبخ وصوت إذاعة القرآن ينبعث منه ناشراً الراحة والطمأنينة في البيت رغم جو الحزن..

أسرعت لغرفتي ثم اغتسلت وغيرت ثيابي.. تأكدت من اكتمال حاجياتي في الحقيبة.. وضعت بعض كتيباتي ومجلاتي وأشرطتي الدينية مع مسجلي الصغير.. حاولت أن أتذكر كل ما يمكن أن أكون قد نسيته.. ثم سحبت حقيبتي قرب الباب.. وذهبت لأمي في المطبخ..
كانت أمي تحاول أن تكون هادئة وطبيعية جداً..
ابتسمت لي ثم اقتربت مني وسألتني..

- هل تأكدت أن كل شيء جاهز؟ ألم تنسي شيئاً؟
- كلا إن شاء الله.. كل شيء موجود..

- هل أخذت فرشاة أسنانك؟
- نعم..

صمتت قليلاً وهي تحاول أن تبحث عن شيء ما لتقوله ثم قالت بارتباك..
- لا بأس يا بنيتي تحملي.. كوني هادئة وأطيعي والدك.. ولا تتجادلي مع زوجته أرجوك..

سكت على مضض فقد أصاب كلامها الوتر الحساس في قلبي.. تنهدت بألم ثم قالت وهي تصطنع الابتسامة..
- يا الله!.. كلها (كم يوم) وستمر بإذن الله.. لا تهتمي ولا تتضايقي..

وتوقفت قليلاً ثم قالت فجأة..
- نور.. احرصي على الصلاة.. صلاة الفجر!
- إن شاء الله يمه..

كنت أعلم أنها تحترق لفراقي لكنها لا تحب أن تظهر مشاعرها.. وكذلك أنا.. لذا فقد تم وداعنا بالأعين المليئة بالدموع.. عانقتها بهدوء.. ثم افترقنا..
خرجت نحو الباب فإذا بالسيارة تنتظرني.. كان يبدو غاضباً لتأخري..
ركبت وسلمت.. سألته عن حاله وهو كذلك.. ثم سرنا طوال الطريق في صمت..
كنت أنظر إليه طوال الوقت وأسأل نفسي.. ماذا يريد مني؟ لماذا يريدني ويجبرني على العيش معه ومع زوجته؟ لو كان يحبني لما طلّق أمي.. ولو كان يحبني فلماذا لا يتبادل معي ولو شيئاً من الكلام؟! أشعر أنه إنما يصر على أن أذهب إليه ليقهر أمي.. ليرضي غروره وعناده.. أما أنا ففي الحقيقة لا يريدني ولا يشعر بأي مشاعر تجاهي إن لم تكن مشاعر نفور..

حاولت جاهدة خلال سنوات طويلة أن أحبه.. ولكن عبثاً لم أستطع.. لم أستطع أبداً.. فهو غاضب طوال الوقت.. كلامه صراخ.. وصراخه سب وشتم وإهانات جارحة.. منذ أن نراه والرعب يسيطر علينا.. نخشى أن نتلفظ أمامه بكلمة فيفهمها خطأ فيحدث الزلزال.. أو نخطئ أو ننسى فيصب براكين الغضب على رؤوسنا ليحرق قلوبنا بكل ما لديه من كلمات قاسية جارحة لا ينمحي أثرها في القلب ولو بعد سنوات..

إنني أحمد الله فقط حين أرى حال أبنائه.. مساكين لأنهم يعيشون لديه طوال الوقت.. على الأقل أنا لا أدخل هذا المعتقل إلا في الصيف.. الحمد لله..

حين دخلت لم أجد أحداً كالعادة في انتظاري.. كان قدومي أمراً غير مرغوب فيه من قبل الجميع لذا لم يكن من المستغرب أن أدخل لأجد زوجة والدي تصرخ على ابنتها الصغرى دون أدنى اهتمام بي.. كانت تلاحقها لتأمرها بارتداء حذائها وتجري خلفها أمامي في الصالة دون أن تكلف نفسها عناء الوقوف للرد على السلام..

سحبت حقيبتي وأنا أدوس على عباءتي بأسى واتجهت نحو غرفة أختي نوال التي تصغرني بعامين.. حين دخلت كانت نوال مستلقية تتصفح مجلة ومسجلها يصدح بالغناء كعادتها..
شعرت بقلبي ينقبض بشدة.. استغفرت الله.. وتوجهت نحوها لأسلم عليها.. فقفزت من مكانها وسلمت علي بحرارة.. والحقيقة أن نوال كانت دائماً طيبة وتحبني رغم اختلافنا الكبير.. فهي صاحبة قلب بريء وطيب لولا تأثير من حولها عليها..
وحين قمت بوضع حقيبتي على الأرض وعلقت عباءتي خلف الباب.. لم أعرف ماذا أفعل.. جلست قرب نوال على السرير.. كنت محرجة وكأني ضيفة ثقيلة في بيت غرباء..

- نوال أرجوك أنا متعبة أريد بطانية لأفرشها على الأرض وأنام..
- لحظة..

وأسرعت تخرج لتبحث لي عن بطانية بينما قمت لأطفئ المسجل الذي سبب لي صداعاً.. جلست ووضعت رأسي بين يدي وأخذت أعصره بألم..
وماذا بعد الآن؟.. سأقضي ثلاثة أشهر هنا.. ثلاثة أشهر من الغربة والوحدة والرسمية والشعور بالخوف.. يا ربي ارحمني..

وحين أتت نوال فرشت المسكينة فراشي على الأرض بعناية.. أخذت أراقبها.. كانت سعيدة بي.. لكنها لا تعبر عن ذلك..

- يا الله.. شكراً.. أنا فعلاً محتاجة للنوم.. لم أنم جيداً منذ ثلاثة أيام..
- كان الله في عونك.. نحن انتهينا بالأمس..

- حقاً؟ نحن لم ننته إلا اليوم..

التفتت نوال نحو مسجلها مستغربة اختفاء الصوت..
- أنت أطفأت المسجل؟
- نعم..

- لماذا ألا تعجبك الأغنية إنها هادئة ومريحة للأعصاب!

ابتسمت ولم أعرف ماذا أقول لها.. مسكينة.. كنت متعبة جداً وبالكاد أفتح عيني من شدة النعاس.. لكني حاولت أن أوضح لها..

- حبيبتي نوال.. حين نقف جميعاً يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى يوم الحساب.. هل تعتقدين أن هذه الأغاني ستوضع في ميزان أعمالك الصالحة أم السيئة؟

- لا أعرف..

- كلا أنت تعرفين جيداً.. اسألي نفسك وأجيبي..

- ولكن.. إنها تخفف عني الألم والحزن..

- على العكس.. انظري لنفسك إنك حين تستمعين لها تغرقين في عالم من الحزن والأحلام واليأس من الحياة.. أين هذا من سماع كتاب الله.. هل تسمعين أشرطة دينية أو أشرطة قرآن؟

- بصراحة كلا..

- هذا شيء مؤكد.. فمن يستمع للأغاني لا يوجد في قلبه مكان لحب كلام الله.. سبحان الله اسمعي ما يقول الشاعر.. (حب أغانٍ وحب قرآن.. في قلب عبد ليس يجتمعان..) فكيف يجتمع كلام الشياطين مع كلام الله سبحانه وتعالى..

- صدقيني يا نور.. أنا أريد تركها.. لكن لا أعرف.. كل من حولي يسمعونها.. صديقاتي قريباتي.. سأبدو غريبة ومتخلفة لو تركتها إنها حولي في كل مكان..

- لكنهم جميعاً لن ينفعوك في قبرك.. لن ينفعوك يوم القيامة.. اعملي لنفسك من الآن.. فلا أحد يعرف متى تنتهي حياته.. لا أحد..

- كلامك جميل يا نور.. لكن.. أنت لا تعرفين حجم المأساة التي أعيشها.. لا تعرفين مقدار الألم الذي أعانيه كل يوم.. إنني أعيش ضغطاً نفسياً رهيباً.. أبي.. أمي.. كلاهما قاسٍ.. لا أحد يستمع إلي.. لا أحد يقول لي كلمة حب أو حنان.. إنني أشعر بالراحة حين أسمع هذه الأغاني لأنها تعوضني عن معاني الحب والود..

بدت عيناها تلمعان بالدموع.. شعرت بتعاطف كبير معها.. فأنا فعلاً أقدر الألم الرهيب الذي تعانيه المسكينة..

- ولكن هذه الأغاني هي مثل المخدر.. إنها تخدرك فقط لتطير بك بعيداً وتجعلك تسبحين في عالم من الوهم والحلم.. ثم ماذا؟! لا شيء.. لا شيء.. تعصين ربك.. وتقضين وقتك في سماع كلام أناس منحرفين.. بينما إخواننا في أصقاع الأرض يقتلون ويذبحون.. بينما الله سبحانه وتعالى يقول لنا.. ادعوني أستجب لكم.. ونحن معرضون عنه.. مشغولون بالاستماع لهذه الأغاني!

سكتت.. فقلت لها..

- نوال.. هل تعرفين؟.. الحور تغني في الجنة.. وغناؤها جميييييييل.. رائع.. لا يمكن وصف عذوبة أصواتهن.. ومن يستمع للأغاني في الدنيا يحرم من سماع غناء الجنة.. فهل تبيعين الثمين بالرخيص؟! كوني قوية يا نوال ولا تستسلمي للضغوط وتبحثي عن مخدرات الألم.. عالجي الألم ولا تهدئيه.. كوني قوية وواجهي الألم حتى تستطيعي العيش برضا..

بدأت الدموع تنساب من عينيها فقد كانت بحاجة لمن تتكلم معه وتشعره بألمها.. قالت بصوت مرتعش..
- سبحان الله..

- حبيبتي.. هذه الدار والله لا تستحق دمعة من دموعك.. إنها دار فانية بكل ما فيها من آلام وضغوط.. دار مؤقتة سننتقل بعدها للأبدية.. للحياة التي لا تنتهي.. فأيهما تستحق البكاء عليها.. هذه الدار التي لن نعيش فيها سوى سنوات معدودة أم دار البقاء الأبدي والجنان التي لا معنى للألم فيها.. فقط راحة ونعيم أبدي؟!

فجأة.. فتح والدي الغرفة بقوة.. بدا هائجاً وغاضباً.. وصرخ..
- يعني لازم عزيمة على الغدا؟ يا الله.. الله يـ ( ).. لم أستطع أن أقول له أنني لا أستطيع التحرك من التعب وأنني أريد النوم.. بل نظرت لنوال وابتسمنا لبعضنا.. ثم قمت بتثاقل.. وهو يسير أمامنا وبتذمر صارخاً..
- بنات آخر زمن.. مثل الـ ( ) أكل ومرعى وقلة صنعة..

في تلك اللحظة.. حمدت الله فعلاً لأن كل هذا سينتهي لا محالة في يوم من الأيام، مهما كان مؤلماً.. كل الألم سينتهي.. وهناك دار أخرى.. حيث لا ألم..



**
مجلة حياة العدد (49) جمادى الأولى 1425هـ



--------------------------------------------------------------------------------



- 18 -

يكفي أنها أمي!



في صباح أشعر اليوم بتأنيب الضمير.. فها أنا أسير عائدة من المدرسة وورقة الدعوة لمجلس الأمهات ممزقة في يدي.. لا داعي لأن أريها أمي.. فهي أصلاً لا تقرأ.. ولا داعي لحضورها حتى.. قطعتها إرباً أصغر ورميتها في الشارع والألم يغتالني..

منذ أن دخلت المرحلة المتوسطة وأنا أحاول بكل استطاعتي أن لا ترى إحدى من صديقاتي أو معلماتي أمي.. لكني اليوم أشعر بتأنيب ضمير بشكل أشد.. فقد فزت بمركز الطالبة المثالية على مستوى المدرسة.. وهذه أول مرة يتم تكريمي فيها في حفل الأمهات.. لكن أمي لن تحضر.. أو بالأحرى.. لا أريدها أن تحضر..

حين دخلت البيت كان التوتر والحزن بادياً عليّ..
سألتني أمي بعطف..
- ما بك يا بنيتي..؟ هل أزعجك شيء؟

شعرت برغبة في البكاء لكني تماسكت..
- لا شيء يا أمي.. فقط متعبة قليلاً من الدراسة..

- الحمد لله.. إذاً ارتاحي في غرفتك وأنا سأحضر لك الغداء هناك..

- شكراً يا أمي لا أريد.. نفسي "مسدودة"!

أسرعت لغرفتي غيرت ملابسي وتوضأت وصليت.. ثم استلقيت على سريري.. يا الله.. ما أجمل الراحة! الحمد لله..

نظرت لغرفتي.. إنها مرتبة.. كل شيء نظيف..
مسكينة أمي.. حبيبتي.. إنها تتعب كثيراً من أجلي.. فرغم كبر سنها وعدم وجود خادمة تعينها إلا أنها تحاول قدر الإمكان ألا تتعبني معها في عمل البيت رغم إصرار أخواتي المتزوجات عليها بأن ترغمني على العمل..

أخذت أفكر في حالي.. كم أنا مغرورة ومتعجرفة.. إنها تفعل كل ذلك من أجلي.. وأنا.. أنا.. أستحي منها وأخجل من أن تراها معلماتي وصديقاتي.. يا ربي.. أشعر بصراع داخلي رهيب.. صوت يقول.. حرام! مسكينة أمك.. لماذا تتنكرين لها هكذا وهي الأم الحنون التي تحبك؟.. وصوت يقول لي.. كلا!! أنت على حق.. لا يمكن أن تراها صديقاتك!! أمك إنسانة متخلفة!.. مسكينة تثير الشفقة والسخرية في نفس الوقت.. انظري لطريقة لباسها وكلامها.. ومفرق شعرها اللامع وكحل الإثمد الذي تضعه حول عينيها.. كيف سترينها صديقاتك اللاتي معظمهن أمهاتهن على قدر من العلم والثقافة والأناقة والمركز الاجتماعي؟!.. بالتأكيد سيسخرن منها.. وأنت لا تريدين ذلك؟!

في إحدى المرات حين كنت في الصف السادس.. أذكر أنها حين أتت للمدرسة سألت إحدى المراقبات الإداريات المسؤولات عن الحضور والغياب عني!.. واعتقدت أنها معلمة فأخذت توصيها بي وتسألها أن ترحمني لأني أدرس طوال الوقت في البيت!! وكدت أموت من شدة الحرج يومها حين رأيت الإدارية تمسك زمام ضحكتها على أمي المسكينة..
وحين توجهت للتسجيل في المرحلة المتوسطة.. أخذت تسأل المديرة عما إذا كان من الواجب أن نلتزم بلبس "الياقة" البيضاء حول الرقبة – مثل المرحلة الابتدائية.. وهنا كدت أموت أيضاً من شدة الحرج..

آآه.. يا أمي.. ليتك تعلمين كم أحبك وأحرج في نفس الوقت من تصرفاتك.. لأني أتمنى أن تكوني دائماً أفضل الأمهات ولا أريد لأحد أن يسخر منك..

أحياناً حين أنظر لأمي.. أشعر أنها مسكينة.. فهي لم تشعر بالحب مرة واحدة في حياتها.. فقد ولدت في بيئة قاسية.. ثم ترعرعت يتيمة وحيدة..
وتزوجت وهي طفلة لرجل مسن حاد الطباع هو أبي.. أنجبت منه أحد عشر ابناً وابنة ورثوا عن أبيهم حدة طباعه وعصبيته – أنا أصغرهم.. وأنهك المرض والخرف جسم زوجها- أبي فلم يعد يعي شيئاً منذ دخلت أبواب المدرسة وفتحت نوافذ الحياة.. وها هي تعتني به حتى الآن رغم كبر سنها..
فمن أين يمكن أن تكون ذاقت طعم الحب؟
مسكينة..
ذات يوم قلت لها وهي جالسة على أرض المطبخ تقوم بتنقية التمر وغسله استعداداً لكنزه..
- يمه..

- هلا..

شعرت أني سأسألها سؤالاً قاسياً لكنه كان يدور في ذهني منذ مدة طويلة..
- لقد عشت طفولة معذبة.. هل كان هناك من يحبك ويعطف عليك..؟

سكتت وأخذت تفكر كمن صدمت بالسؤال..
سقطت حبتين من التمر من يدها.. ثم مسحت رأسها بجانب ذراعها..
وقالت..
- إيه.. كانت هناك ابنة صغيرة من بنات عمي الذي رباني.. كانت تحبني وتعطف علي.. وحين يضربني عمي أو زوجته أو يحرماني من العشاء كانت تخفف من ألمي وبكائي وتعطيني بعض عشائها.. الله يرحمها.. كانت تحبني أكثر من أخوتها..

- سبحان الله توفت؟!

- نعم.. توفت.. أصيبت بحمى شديدة بعد موسم المطر.. ثلاث ليالٍ ثم توفت الله يشفع فيها.. كان عمرها تسع سنين وأنا عشر..

- وبعدين..؟

- ماذا؟

- من أصبح يحبك ويعطف عليك بعدها؟

- لا أحد..

- لا أحد؟!

وقفت تفكر بصمت وبوجوم.. ثم تداركت بسرعة..
- طبعاً الله يخلي لي "عيالي" وأبوهم إن شاء الله.. وحاولت أن تستمر في عملها منشغلة عن هذا الحديث..

في تلك الليلة.. أخذت أفكر.. أي معاناة عانتها أمي المسكينة في طفولتها.. وأي حرمان من الحب عاشته في حياتها.. ورغم كل ذلك الألم الذي تجرعته.. فإنها قادرة وبكل سخاء على منح الحب والعطف للآخرين مهما قسوا عليها.. كم هي حقاً إنسانة عظيمة تستحق التقدير.. وكم أنا غبية لأني لا أفتخر بأم مثلها..

وفي الصباح حاولت أن أخبرها أن حفل الأمهات بعد يومين.. لكني وجدت نفسي أتوقف.. وأفكر في مسألة الإحراج مرة أخرى.. وفي مفرق الشعر.. ورائحة الحناء.. والحديث البسيط.. فأحجم عن مفاتحتها بالأمر..

* * *

وفي المدرسة.. وكأن الله أرادني أن أشعر بعظمة أمي.. جاءتني صديقتي نورة في الفسحة وجلست بقربي مع الشلة دون أن تتحدث.. شعرت أنها تريد أن تقول شيئاً لا تستطيع قوله أمام البنات..
- نورة.. تقومين نتمشى؟
قفزت بسرعة وكأنها كانت تنتظر هذه الدعوة بفارغ الصبر.. وما أن بدأنا نبتعد عن البنات حتى بدأت تفضفض لي ما بصدرها المثقل..
- إنني متعبة.. متعبة جداً يا مريم.. أكاد أنهار من شدة الألم الذي في قلبي..

- ماذا هناك.. خيراً إن شاء الله..؟!

- أمي.. أمي.. إنها قاسية.. قاسية جداً علينا.. تخيلي يا مريم أننا لا نراها ولا نكلمها إلا نادراً ومع هذا فهي لا تواجهنا إلا بوجه متضايق غاضب دائماً..

- لا ترونها؟.. كيف؟

- أنت تعلمين أنها تعمل.. وهي تقضي بقية اليوم في النوم أو حضور المناسبات الاجتماعية أو الذهاب للنادي.. لذا فإننا لا نراها إلا قليلاً وتكون متعبة ومتوترة ولا تريد أن تستمع لنا..

تركت نورة تكمل مشكلتها وأنا منبهرة فقالت وهي تخنق عبراتها..
- بالأمس تناقشنا في موضوع بسيط.. فاحتد النقاش بسبب غضبها وتوترها.. هل تعرفين ماذا قالت لي؟.. قالت أنها لا تحبني ولا تطيقني.. بل تكرهني وتتمنى لو تراني أنا وأخوتي موتى أمامها لترتاح من همنا.. تخيلي!!

صمت وأنا لا أزال مستغربة تماماً ولا أعرف ماذا أقول فأكملت وصوتها يرتجف بنبرة البكاء..
- مريم!.. تخيلي.. تقول أنها تريد أن تراني ميتة أمامها.. لقد بكيت بالأمس.. بكيت ودعوت الله من كل قلبي أن أموت لأريحها بالفعل مني.. وأتخلص من معاملتها القاسية..

- لا حول ولا قوة إلا بالله.. استعيذي بالله من الشيطان الرجيم يا نورة.. بالتأكيد هي لا تقصد ذلك..
وأخذت أهدئها وأنا أرى خيال أمي الحبيبة البسيطة الحنونة.. وأقارنها بوالدة نورة.. الدكتورة في الكلية.. المثقفة.. الأنيقة.. ولكن الغير قادرة على منح أبسط وأغلى شيء.. وهو الحب..

وفي يوم مجلس الأمهات.. قبضت على يد أمي في ساحة المدرسة وأخذت أعرفها على صديقاتي ومعلماتي بكل فخر.. كنت أعلم أنها امرأة بسيطة وغير متمدنة وقد تقول عبارات مضحكة.. لكنها في نظري أعظم وأسمى وأشرف أم.. يكفي أنها أمي.. وكفى..



**
مجلة حياة العدد (50) جمادى الثانية 1425هـ




--------------------------------------------------------------------------------


- 19 -

وأسمتها نعمة..




كانت عيناها تلمعان ببراءة وهي في فستانها الأبيض..
نظرت إلي.. فابتسمت وأنا أبكي..
حبيبتي.. أختي الصغيرة..
ها هي تترك منزل اليتم.. إلى عالم آخر..
تلفت في الحفل.. نظرت إلى الوجوه.. كنت أتمنى أن تحصل معجزة وأرى بين الوجوه وجه أمي التي لا أعرف عنوانها ولا بلدها.. أمي التي لم أرها منذ ثمانية عشر عاماً..
لكني لم أر شيئاً..

لا زلت أرى عينيها الغارقتين في الدموع.. وأشتم رائحة عنقها الدافئ..
- حبيبتي مها.. عمري.. مهّاوي..
حضنتني بقوة وأنا أستغرب هذا التصرف.. كانت ترتدي عباءتها.. وتسحب حقيبة سفرها.. وأنا أريد التنصل من يديها لأكمل اللعب مع ابنة جيراننا..
وقفت خلود تبكي.. وتعلقت بعباءة أمي قبل أن يدفعها والدي لتخرج بصعوبة من البيت.. بينما كانت رحاب الصغيرة نائمة..
حين اقتربت الشمس من المغيب عدت لأبحث عن أمي.. فلم أجدها.. وبقيت أصيح أمام غرفتها حتى نمت على الأرض..
وبعد فترة علمت أن أمي لن تعود.. أبداً..

* * *

عشنا في البداية حياة مليئة باليتم والوحدة ونحن ثلاثة أطفال أكبرنا لم تجاوز التاسعة وأصغرنا أكملت للتو عامها الثاني..
لا زلت أذكر معاناتي أنا وخلود في تنظيف رحاب وتغيير ملابسها والتعامل مع صياحها طوال الليل باحثة عن أمي.. وكان أبي يتعمد تجاهلنا حتى لا يشعر بتأنيب الضمير.. فكان يخرج من البيت كثيراً.. ولا نراه إلا قليلاً..
وحين بدأت المدارس.. كان علينا أن نعاني من هموم أخرى.. فعلينا الاستيقاظ باكراً.. لنأخذ رحاب لجارتنا أم خالد.. كانت خلود المسكينة هي أمنا.. فكانت توقظني.. وتغير ملابس رحاب ثم تأخذها وهي تصيح لبيت الجارة.. ثم نذهب لمدرستنا سيراً على الأقدام.. وكان ذلك عامي الأول في المدرسة..

* * *

لا أنسى.. يوم.. أن صرخت أبلة حصة على خلود في الطابور.. وأنبتها أمام الطالبات لأن مريولها غير مرتب..
شعرت يومها أن أبلة حصة تنتقص من أمي.. نعم.. فخلود كانت أمي..
المسكينة وقفت ولم تتكلم.. ولم يكن هناك مجال لأن تشرح شيئاً..
عيناها كانتا حمراوين يومها..

* * *

تزوج أبي.. وأحضر امرأة سليطة اللسان إلى بيتنا..
في البداية.. تقززت من البيت الذي كانت رائحته سيئة كما تقول.. وبدأت تلقي أوامرها.. ورضخنا لها..
كنا نراها تخرج وتذهب وتعود.. ونحن جالسون لوحدنا في البيت.. لا نتحرك..
ذات يوم سألتني رحوبة.. "ما هي حديقة الحيوان؟"
بدأت دموعي تنساب وأنا صامتة.. لم أستطع أن أشرح لها..
وسكتت خلود أيضاً..

* * *

مع زواج أبي.. بدأ يغضب علينا كثيراً.. ويصرخ.. ثم.. أخذ يضرب..
ذات مرة ضرب خلود بعصا المكنسة.. ومرة أخرى رماني بقدر وجده في المطبخ لأني حرقت الطعام.. وفي مرات كثيرة دعا علينا بالموت..
كنت فقط أشفق على رحاب المسكينة.. لم أكن أود أن ترى والدي في هذه الحالات فتصاب بالرعب..

* * *

كبرنا وكبرت همومنا..
كنا نرى إخوتنا من أبي يكبرون.. وهم يعيشون طفولة أخرى.. لكننا لا نجرؤ على الكلام..
خُطبت خلود..
وبكت كثيراً.. قالت أنها لا تريد ترك رحاب.. لكني أقنعتها أن رحاب لم تعد طفلة.. عمرها الآن عشر سنوات..
وتزوجت خلود.. دون حفل ولا فستان أبيض..
دعوت الله لها كثيراً.. وبكيت..
وتذكرت رائحة أمي..

* * *

أنجبت خلود..
لكنها بقيت في بيتها.. كانت تعلم أن زوجة والدي لا تريدها هنا..
فذهبت إليها..
كانت متعبة كثيراً.. ولم أعرف كيف أتصرف معها في البداية..
لكنها أصبحت أفضل فيما بعد..
طفلتها كانت لها عينان لامعتان جميلتان..
لم يرها والدي إلا بعد أن أكملت أسبوعاً..
- سأسميها نعمة..
نظر إليها والدي بغضب.. نظراته مرعبة..
- كلا! والله لا تسمينها هذا الاسم!
ابتلعت خلود غصتها.. وسكتت.. شعرت بطعنة في صدري.. وما يضرك يا أبي؟.. هل تحرمنا حتى من اسم أمي؟
حين خرج والدي قالت خلود..
- والله لولا أني أخشى عليكما من سطوته.. لأسميتها بهذا الاسم مهما فعل..
كانت رحاب صامتة.. فهي لا تعرف أمي.. ولا رائحتها.. ولا اسمها..

* * *

بعد فترة خطبت أنا أيضاً.. وتزوجت..
كان زواجاً سريعاً.. والرجل.. لا بأس به.. أفضل من والدي على أية حال..
ليت لي أماً أشكو لها.. ليت لي أماً أستشيرها..
بعد عام أنجبت طفلاً..
وتغير زوجي.. بدأ يصبح أفضل..
لكن.. كان هناك ألم كبير في حياتي.. ألم لم أستطع اقتلاع جذوره..
كان يخيم على حياتي بشكل رهيب..
كلما رأيت طفلي يلعب وأنا أجري خلفه أحميه وأداعبه.. أتذكر طفولتي.. وأتذكر أختي الصغيرة.. فتنساب الدموع من عيني.. كلما رأيت طفلي يتعلق بعباءتي حين أخرج.. أتذكر أمي في وداعها الأخير فأعود إليه..
وأنجبت طفلاً ثانياً وثالثاً..
وشعور اليتم يقتلني..

* * *

وهي تجلس بكامل زينتها على المنصة.. كنت أرى في عيني رحاب الطفولة المعذبة.. ومن بين أصوات الدفوف.. كنت أسمع بوضوح صوت بكائها ونحن نحملها صباحاً لبيت أم خالد.. وكنت أسمع صياحها وخلود تدور بها حائرة في ممرات المنزل فجراً.. كنت أسمع صوتها تنادي.. ماما.. ماما.. ونحن نبكي معها..
قرصتني خلود وهي تتهادى ببطنها الكبير..
- كفى بكاء!.. لا تحزنيها ليلة زفافها..
ابتلعت الغصة وسكت..
وبعد أسبوع.. أنجبت خلود..
أنجبت طفلة سمراء جميلة..
وهذه المرة فقط.. أسمتها.. نعمة..


**
مجلة حياة العدد (51) رجب 1425هـ


--------------------------------------------------------------------------------


- 20 -

صراع الذكريات



علا الصراخ بشكل غير طبيعي هذه المرة..
سقطت السيارة الصغيرة من يد عبودي وأخذ ينظر إلي بخوف.. يا للمسكين..
أسرعت أغلق باب غرفتي واحتضنت عبودي..
- "خلاص" حبيبي.. لا تخف.. لم يحصل شيء..
- أريد ماما.. أريد ماما..
- ماما مشغولة الآن..
أخذت أمسح شعره بحنان وأنا أكثر حاجة منه لمن يحتويني في هذه اللحظة..

فتحت هيفاء الباب بهدوء ونظرات الخوف تكسو وجهها..
كنت أعرف ماذا تريد أن تقول.. وهي كذلك تعرف ما في قلبي.. كان هناك فقط كم من المشاعر على وجوهنا تتكلم..
دخلت وأغلقت الباب وجلست على سريرها شاحبة.. بينما أصوات الصراخ تعلو..
سكت قليلاً..
- ماذا حصل؟
سألتُها..
- لا أعرف.. ربما لأنها نسيت صنبور الحديقة مفتوحاً!
ساد الصمت مرة أخرى..
- إنه غاضب منذ البارحة.. عمتي منيرة "زعلانة" لأن أمي لم تزرها في المستشفى منذ أول يوم.. وقد صبت غضبها على أبي..
- يا الله!!.. لماذا هم هكذا؟.. مسكينة أمي!.. لقد كان عليها حضور زواج ابن أختها.. كيف تذهب لعمتي؟ ثم إن عملية عمتي هي جيوب أنفية.. لم كل تلك الضجة؟!
- اسأليه!
فجأة رفع عبودي رأسه..
- أبيل.. نلوح سوبلمالكت اليوم؟
أطلقت ضحكة أسالت دموعي الساخنة..
- أي سوبرماركت يا حبيبي..!
وتنهدتُ بحرقة..
- سنقضي أسبوعاً من الألم والنكد والعزلة بسبب مثل هذا الشجار..
استلقت هيفاء على السرير وأعطتني ظهرها.. أحسست أنها تبكي.. ابتلعت غصتي وسكت بينما أصوات الصراخ تعلو.. تقترب وتبتعد أحياناً..
وفجأة سمعت صوت ارتطام شيء..
- وأنت يا ثور..!!
عرفت أنه أحمد.. لا بدَّ وأنه قد مرَّ في منطقة الخطر.. ليحصل على نصيبه من الحلوى..
وبعد قليل فتح الباب بهدوء ودخل..
نظراته الكسيرة توحي بالحيرة والضياع والألم..
جلس على السرير قرب هيفاء.. حك رأسه.. وتناول مجلة أطفال قديمة يتصفحها.. يحاول أن يبدو مشغولاً وغير مهتم..
شعرت بتعاطف كبير معه.. كنت أعلم يقيناً أنه تعرض لضربة موجعة.. لكني لم أشأ أن أكسر شيئاً من كبريائه وهو في سنوات مراهقته الأولى..
بعد قليل تكلم..
- أبي غاضب..!
سكت.. فلا تعليق لدي.. لكني كنت أعرف أنه يريد مدخلاً للحديث..
- كسر لعبة الكمبيوتر الجديدة!
يا الله!!!.. لا يمكن.. مسكين!.. لقد بقي أحمد عاماً كاملاً يجمع من مصروفه وعيدياته ليشتريها.. لا يمكن..!
مسح كتفه ثم ابتسم..
- وضربني بسلكها أيضاً!!
كان يحاول أن يبدي عدم الاهتمام.. لكني كنت قد وصلت إلى حافة الانهيار وأكاد بالفعل أن أبكي.. وتماسكت بصعوبة حتى لا أزيد جراحه..
هدأ الصراخ.. فشعرت بخوف أكثر.. لأن هذا هو الوقت الذي يطل فيه أبي علينا ليلقي تهديده ووعيده..
أخذت أمسح باستمرار على رأس عبودي الذي نام في حضني وغاب – لحسن حظه- عن المشهد..
جو خانق في الغرفة.. لكنه يبدو في الخارج خانقاً ومخيفاً أكثر.. بقينا صامتين.. هيفاء شبه نائمة.. وأحمد يقلب صفحات المجلة القديمة ويحاول أن يبدي اهتمامه بها.. وأنا أصارع دموعي ونشيجي كي لا يظهر..
فُتح الباب بقوة كما توقعنا.. كان غاضباً بشكل رهيب..
وجهه محمر.. عيناه تطلقان الشرر..
صرخ بقوة.. وصرخ.. وصرخ.. وكال الشتائم لأمي أمامنا حتى يغيظنا.. وهدد وهدد..
وكان علينا أن نقف هادئين مطأطئين رؤوسنا باحترام وأن نرضيه ونبدي السعادة أيضاً أمامه..
وحين سكتنا صرخ..
- لماذا أنتم صامتون؟ تكلموا.. هيا.. قولوا شيئاً..
نظرنا لبعضنا في خوف فماذا عسانا نقول؟.. إن أي خطأ أو هفوة بسيطة في الكلام قد تكلفنا صفعة على الوجه..
تطوعت للرد وأنا أرتجف..
- خيراً إن شاء الله يا أبي..
صرخ كمن ينتظر سبباً لإكمال صراخه..
- وأي خير يرتجى منكم ومن أمكم.. أي خير؟
هاه؟.. قولوا.. أيها الـ.. الـ..
واستمر في الإهانات الجارحة التي كانت أقوى من أي صفعة..
في تلك اللحظة.. استيقظ عبودي من النوم.. وبدأ يبكي ويصيح من الخوف.. فازداد غضب أبي.. وصرخ قليلاً ثم أغلق الباب بكل قوته وخرج يكاد يحرق من يمر أمامه..
عندها حضنت عبودي بقوة.. حضنته ووضعت رأسي على رأسه وأخذت أصيح.. وأنشج بقوة.. لم أعد أحتمل..
لأني أحسست بأشياء كثيرة تتحطم في داخلي.. كرامتي.. مشاعري.. روحي.. وحتى حبي لنفسي..
كرهت نفسي لأنها وصلت لهذه المرحلة من الحضيض وتقبل الإهانات.. وبكيت حتى بللت شعر الصغير..

× × ×

بعد سنوات.. بدأت آثار ذلك الألم الذي كنا نعيشه تظهر علينا جميعاً.. كلٌ حسب الطريقة التي اختارها..

هيفاء.. استسلمت لتلك الذكريات.. فهي ترفض الزواج تماماً.. ومتعلقة بأمي بشدة ولا تريد مفارقتها.. علاقتها بأبي رسمية جداً..

أحمد الهادئ.. اختار الهروب من تلك الذكريات.. فترك المنزل.. وأصر على التسجيل في جامعة في مدينة أخرى.. كنت أعلم يقيناً أنه يريد الابتعاد عن والدي وعن المنزل الذي عاش فيه الكثير من الليالي المرعبة..

وعبودي.. الذي كنت أحاول – عبثاً- أن أبعده عن أي مؤثر خارجي كان أقلنا تأثراً.. ربما لأن أبي تغير طبعه بعض الشيء مع كبر سنه.. لكنه لا يزال يعاني من مشاكل دراسية وسرحان.. ولا يزال يبدو يقرض أظافره حتى الآن..

أما عبير.. أنا..
فقد اخترت الطريق الأصعب..
اخترت أن آخذ الأمر كله كتحدٍ.. وصراع.. وأعيش كمقاتل عنيد مع ذكرياتي الأليمة.. حتى أهزمها..
اخترت أن أثبت نفسي وأشق طريقي في الحياة لأعوض شخصيتي المهانة في الطفولة..
درست الطب وتخرجت وتزوجت.. وأنجبت.. وعملت كطبيبة أطفال..
أصبحت أشارك في الكثير من المؤتمرات الدولية.. وألقي المحاضرات بكل ثقة وقوة..
حياتي الأسرية سعيدة جداً ولله الحمد.. فزوجي إنسان هادئ يقدرني ويحترمني.. وأطفالي سعداء ومرتاحون وينعمون بالحب والأمان.. وحين أرى الفرحة في أعينهم أنسى كل آلامي..

أما والدي.. فقد جاهدت كثيراً لكي أتناسى ما فعله بحقنا..
ودعوت الله أن يغفر لنا وله.. قاتلت وحاربت نفسي طويلاً لكي أسامحه وأصفح عنه بصدق.. وبعد سنوات طويلة.. استطعت ذلك بصعوبة.. وعندها فقط شعرت بالراحة والرضا والسلام.. ولم تعد الذكريات تخيفني..

أعلم أنه أمرٍ مغرٍ جداً.. أن تهرب من الذكريات القاسية.. أو تستسلم لها بكل خنوع..
لكني لم أهرب منها.. ولم أستسلم لها أيضاً.. أنا تركتها في مكانها في الذاكرة..
لكني تحديتها.. وواجهتها.. وتغلبت عليها ولله الحمد..



**
مجلة حياة العدد (52) شعبان 1425هـ


--------------------------------------------------------------------------------

- 21 -

صباح الخميس المرعب



- هنوف.. هنوف..
تقلبت قليلاً.. ثم فتحت عيني بصعوبة.. نظرت بلمحة خاطفة لساعة الحائط فإذا بها تشير للتاسعة والنصف.. لكن اليوم خميس..
- ماذا هناك.. لماذا توقظينني الآن؟
- استيقظي بسرعة.. شيء هام..
- يا الله صباح خير!..
وبدأت أجلس بتثاقل.. وأنا أتوقع أنها قد أعدت طبقاً للفطور كعادتها وحصلت مشكلة في المطبخ.. يا لنجلاء وهوايتها السخيفة..!!
- أفففففف.. ماذا أحرقت اليوم يا فليحة؟
- لم أحرق شيئاً.. قومي بسرعة.. تعالي.. أمي.. أمي تبكي هناك.. شيء خطير حصل على ما يبدو.. يا الله!.. هل هناك من يبدأ صباح يوم خميس منعش مثلنا؟ بكاء ومشاكل (على الصبح)! يا رب ارحمنا..
- حسناً.. وماذا هناك؟
- أقول تبكي..!
- ليست أول مرة.. اسكتي واذهبي..
- هنوف.. صدقيني.. هذه المرة الأمر يختلف.. مم.. يبدو.. يبدو..
ثم همست لي بصوت خائف واتسعت عيناها وكأنها تخبرني بشيء عظيم..
- يبدو أن أبي قد.. تـ.. تزوج..!
تلقيت صدمة كبيرة.. لكني حاولت أن أتماسك..
- من قال هذا؟
- هذا ما عرفته من همهماتها ودعواتها عليه..
كنت قد سمعت أخباراً كثيرة من هنا وهناك حول هذا الموضوع، وحدثت خلافات كثيرة بين أمي وأبي تخللها موضوع هذا الزواج.. لكني لم أتوقع أن يتحول هذا الكلام فعلاً لواقع ملموس.. كنت أتوقع أن أبي كان يقول ذلك ليغيظ أمي فقط.. ولم أصدق ما قالته هذه المتهورة.. أو.. لم أرغب في تصديقه.. شعرت بأنها تختلف أو تتخيل.. فصرخت بها بقوة لأقذف سيل غضبي عليها..
- (انقلعي)!! اذهبي يا غراب السوء.. حسناً.. فليتزوج.. أريد أن أنام!!
تكورت في سريري وغطيت رأسي حتى أطراف قدمي بالغطاء جيداً.. دفنت رأسي بالمخدة.. وتمنيت لو أعيش في جزيرة صغيرة في المحيط.. تماماً مثل تلك الجزيرة التي كانت تظهر في إحدى حلقات (وودي بيكر) حين كنا صغاراً..
يا سلااااااام.. جزيرة هادئة.. رمال وأشجار جوز الهند.. وأمواج زرقاء صافية.. وأسمع أصوات الطيور.. وأمواج البحر.. فأسترخي في هدوووووووووء..
(ززززززززززززز)
يا إلهي.. ما هذا الصوت المرعب!! زلزال!
أزلت الغطاء عن وجهي لتظهر أمام عيني (سومارتي) الغاضبة تكنس الغرفة بالمكنسة الكهربائية.. صرخت بغضب..
- ألم تجدي غير هذا الوقت لتكنسي فيه؟!!!
صمتت بعناد وأكملت عملها دون أن تلتفت إلي..
يا الله!.. ماذا أفعل.. ياللإزعاج.. مشاكل.. زواج.. بكاء ومكنسة كل هذا في صباح يفترض أن يستمتع الناس فيه..!!
خرجت من الغرفة.. ذهبت للحمام.. وحين غسلت وجهي ونظرت لنفسي في المرآة.. بدأت أستوعب حقيقة ما سمعته من نجلاء قبل قليل.. هل يعقل هذا؟ كلا.. لا يمكن.. لابد وأنها خمنت هذا الأمر.. أو هذه المصيبة.. لا.. لا يمكن.. أن.. يتـ.. أعني.. يتزوج.. أبي.. لا يمكن.. فهو أبي.. أبونا نحن.. نحن وحدنا.. ولن يذهب لغيرنا..
هكذا أخذت أفكر ودقات قلبي تتسارع بقوة..
وحين مررت قرب غرفة أمي.. كان صوت بكائها واضحاً.. وبابها مقفل.. والحزن يجثم على البيت بشكل مرعب.. طرقت الباب.. لكنها لم تفتح..
توجهت للصالة.. كان الصغار مستلقين على بطونهم لمشاهدة بعض الأفلام المتحركة.. وحين رأوني شعروا بأني المنقذ لهم..قفزت رنا الصغيرة أمامي..
- هنوف.. أنا جوعانة.. جوعانة
- اذهبي لسومارتي.. اطلبي منها أن تصنع لك شيئاً..
- كلا.. سومارتي لا تريد.. إنها غاضبة..
فعلاً.. إنها صادقة.. حين تغضب سومارتي فإنها لا تطاق..
لا أعرف لماذا تجتمع كل الأحزان سوية..
رن الهاتف.. لم أكن أرغب قي الرد لكن عزوز (الملقوف) أسرع ورد على الهاتف ليناولني إياه بعد رد السلام.. ففف.. فكانت المتحدثة زوجة عمي.. لابد وأنها تريد الشماتة..
كانت تريد أن تؤكد لي بطريقة أو بأخرى أن أبي قد تزوج.. لم أستطع إكمال المكالمة فقد بدأت الدموع تنهمر من عيني بلا شعور.. وأغلقت الهاتف بقوة..

* * *

في الأيام التالية.. حاولت أن أكون أكثر تماسكاً وأن أبدو متفاءلة أمام أمي التي كادت تنهار في أول الأمر.. وكنا نتحدث برسمية شديدة معها.. فقط نجلس للأكل فتسألنا بعض الأسئلة البسيطة ثم تعود لغرفتها.. ونحن كنا نراعي مشاعرها قدر الإمكان.. حتى الصغار لم يعودوا يطرقون بابها كالسابق..
وفي المدرسة.. كنت أفكر بقلق.. ماذا أقول حين يسألني أحد عن خبر زواج أبي؟ هل أدعو على أبي وأتحدث عنه بغضب وكأنه ارتكب جرماً كبيراً؟.. أم أنكر الخبر وأكذب؟.. أم أحاول أن أتهرب من الأسئلة وأتركها تدور في أعينهم ليتحدثوا في هذا الأمر خلف ظهري؟!
كنت أفكر في هذا الأمر كثيراً، وكنت قلقة بشأنه أكثر من قلقي بشأن زواج أبي نفسه.. لقد وجدت نفسي أخشى مواجهة الآخرين أكثر من مواجهة الواقع الجديد.. وبالفعل.. بدأت الأخبار تعرف طريقها للمدرسة.. وبدأت أسمع بعض الهمسات من خلف ظهري.. مثل:
- هذه.. نعم.. هذه.. مسكينة.. تزوج على أمها.. تصدقين..؟
- نعم.. الهنوف (ما غيرها).. أبوها تزوج على أمها.. تصدقين..؟!
كانت هذه الهمسات تجرحني أكثر من أي شيء آخر.. فقد أصبحت في أعينهم أثير الشفقة والعطف.. وكنت ألمح بوضوح كيف يغيرون بعض القصص والحكايات حين يمرون على قصة رجل تزوج بثانية حفاظاً على مشاعري..
وابتلعت كل تلك الآهات بصمت.. لكني عموماً.. كنت قوية.. وصامدة..

* * *

بعد أيام تحسنت حالة أمي وعادت للابتسامة.. فقد عاد أبي بعد أن سافر مع زوجته لأسبوع لأداء العمرة.. وقد أحضر لأمي طقماً رائعاً من الألماس.. لم أصدق أني أرى أبي!.. حين عدت من المدرسة ورأيته يجلس بهدوء وأمي تبتسم قربه وأمامهم صينية الشاي.. شعرت بسعادة غامرة.. أسرعت وضممته بشدة حتى أسقط عقاله.. ولم أحدثه في الموضوع.. سألنا عن أحوالنا وعن دراستنا كالعادة.. ثم تغدينا معاً وسط ضحكات أخوتي.. وبقي أبي لدينا حتى الغد.. وكان سعيداً جداً.. وكذلك أمي..
وفي المساء التالي سمعتها تتحدث مع خالتي على الهاتف.. أخبرتها أن أبي أحضر لها هدية وأخبرها بأن مكانتها ستبقى الأغلى لديه.. لكن في نبرة صوتها كان لا يزال هناك ألم..
حين دخلت عليها ذات يوم وهي تتصفح الجريدة.. سألتها بغباء وبلاهة – لا أعرف من أين أتتني! يمه هل أنت سعيدة مع أبي؟
رفعت رأسها مستغربة السؤال.. ثم عادت تتصفح الجريدة وهي تحاول أن تتهرب من النظر إلي..
- ليس كثيراً..!
وقلبت صفحة.. ثم قالت وهي تبعد خصلة شعرها خلف أذنها وتتابع القراءة.
- لكني لست حزينة.. الحمد لله.. فأبوك لم يتغير.. على الأقل أصبح يهتم بنا أكثر.. شعرت براحة من ردها الصريح.. والحقيقة أن البيت أصبح فعلاً أكثر هدوءاً منذ زواج أبي.. والمشاكل قلت بينهما.. فأصبح يراعي شعورها أكثر..
وحين يأتي يخرج بنا للنزهة وكأنه يعوضنا عن غيابه عنا.. كل ما هناك هو فقط كلام الناس.. وشماتة الحاقدين كزوجة عمي..

* * *

بعد عدة أشهر أستأذننا أبي في أن نرى زوجته الجديدة.. وسمحت لنا أمي بذلك.. وحين رأيتها انتابني – على عكس ما تصورت – شعور بالراحة والرضا.. فهي ليست كما تقول زوجة عمي فتاة جميلة وصغيرة! .. بل امرأة متوسطة العمر ونصيبها من الجمال قليل جداً.. وعرفت أن الذي أعجب أبي فيها هدوءها وأخلاقها الطيبة.. وقد كانت بشوشة.. مرحة.. وطيبة جداً كما يبدو.. كانت تضحك معنا وتروي لنا القصص عن طفولتها بمرح.. وكأننا نعرفها منذ زمن طويل.. وكان أبي سعيداً لاندماجنا معها..
وبعد أشهر جاء اليوم الذي انتظرناه طويلاً وهو اليوم الذي تتقابل فيه أمي معها.. والحمد لله أنهما انسجمنتا ولم تحدث أية مشاكل.. أنجبت زوجة أبي... وأصبح لي أخوة من أب.. لكنهم مثل أشقائي تماماً.. وكانت لأمي مثل الصديقة والأخت.. ومضت حياتنا سعيدة ولله الحمد.
وكلما تذكرت ذلك الخ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صغير بس خبير
مشرف
مشرف



ذكر عدد المساهمات : 460
نقاط : 626
السٌّمعَة : 0
المزاج : جيد جدا

قصص واقعية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص واقعية   قصص واقعية Emptyالخميس يونيو 24, 2010 12:17 pm

كنت ألاعب طفلتي الصغيرة شاهدت ما لم أستطع نسيانه ( رسالة هامة) !!



المؤمن كالغيث


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كتب الله لكم السعادة ، وجعلكم ممن كتب عليه دوام رضاه وتمام محبته .. آمين


في حين أباشر بعض الأعمال وإذا بقريب لي يتصل علي .. في اتصال مفاجئ ..

المؤمن كالغيث السلام عليكم ؟

وعليكم السلام هلا أبو عبد المحسن .. كيف أخبارك ؟؟

قال لي خرجنا الآن لنتزه .. وإذا بــ ( كفر السيارة ) قد ارتخى علينا في المنتزه .. !!

الله المستعان لا تكمل صف لي محلك وسأكون خلال دقائق عندك ..

ذهبت لهم لأجد قريبنا هناك ومعه أهله في المنتزه وأولاده الصغار .. هناك

وقد تعكر صفو ( رحيمنا ) قليلا ..

قلت له : لا يليق بكم التأخر دعنا نذهب بسيارتي الآن نتم رحلتكم وتتناولون عشاءكم ..

وأشارككم الرحلة على غير ميعاد .. وغدا نأتي ونصلح ما عطب من كفر السيارة ..

فطاب خاطره .. وركبوا جميعا وقد أدرنا الضحكة بينهم ..

وإذا بالصغيرة - وأنا خالها - تسأل باستغراب وفرح شديد :

يعني بتتمشى معنا يا خالو ؟ لأن هذه أول تمشية معهم من سنوات فأنا في غالب أمري أكون في سفر .. !!

قلت : نعم .. يا حبيبتي ..

وانطلقنا واخترنا المناسب من المكان .. ثم تناول الجميع طعام العشاء ..

وأخذت الأولاد جميعا .. وأنزلناهم حيث الملاهي التي لا يصاحبها منكر ولا صخب ..

وانشغلت مع الصغيرة منهم ..

وكل من الباقين قد ذهب في لعبة وانشغل في ترفيه يميل إليه ويناسبه ..

أركبت صغيرتي في لعبة تسمى في عرفنا ( المرجيحة ) ولها أسماء أخرى : المدريهة – مثلا –

وهي التي تشبه مرمى كرة القدم قد ربط فيها حبالا تتدلى وفي نهاية كل ( حبلين ) مجلس يجلس عليه

فيتحرك فيها ذهابا وإيابا .. أماما وخلفا ..

وبدأت في تلقائية في مداعبة الصغيرة فكنت أدفعها وتذهب وحين ترجع كما هي اللعبة أكون

قد أعددت في يدي عصاة صغيرة فأضرب بلطف قدمها .. وهي تقول : لا يا خالي وتكاد تسقط من على اللعبة

من شدة الضحك وأنا إما أضرب قدمها أو أنزغ جنبها فلم يتمالك كلينا نفسه من شدة الضحك ..

وأنا في هذا الجو الماتع ..

جال نظري إلى ( المرجيحة ) التي بجوارنا ..

وإذا بمنظر لم يكن لي على بال .. !!

وقد ابتليت كما يقرأ من قرأ قصصي السابقة بعاطفة شديدة .. كاد دمعي والله ينهمر .. !!

لك أن تتخيل وقد أشبعت طفلتك بالحنان واللعب والعاطفة .. مما جعلها تشبع ..

وإذا بجوارنا من أوقفت لعبتها ... وتنظر إلينا نظرة حزينة ..

فليس عندها من يلاعبها .. ويضحكها كما أضحك طفلتي الحبيبة ..

كأنها تقول لطفلتي هنيئا لك .. بهذه المتعة وهذا الضحك .. ياليتني كنت مكانك ..

وقد هزت كياني بنظرتها .. التي والله فعلت في قلبي فعلها ..

حينما نظرت إليها ( إلى المظلومة )

وجدت والدها ( الغافل ) قد جلس هناك وهو شاب في كامل عافيته ..

لم يتنازل ليلاعب ابنته .. !! ليصبح لها أبا لا يترك لها أملا إلا لباه

ولا ناقصا إلا أشبعه ..

نظرت إليها .. وكأنها أفاقت من غفلة ..

وعادت تلعب وكأن شيئا لم ... يكن .. لا تريد أن تظهر ضعفها وألمها ..

فخشيت أن ألاعبها .. فيأتيني والدها .. ويتشاكل معي .. وله الحق ..

فذهبت عن بعد واشتريت بالونا .. كبيرا زهيا ..

وجعلت من بعد .. مسابقة بين طفلتي وهذه الطفلة في هذه اللعبة ..

والذي يسرع أكثر فيها يأخذ هذه البالونة .. ( وأنا أضمرت في نفسي ان أعطيها لهذه المظلومة )

فأصبحت أمدح هذه الطفلة كثيرا وأنا أعلم أن طفلتي لم تتكدر ..و لن تغضب ..

فسارعت باللعب معنا وأبدعت في اللعبة فعلا وكأنما نشطت من عقال ..

وتحمست وسرت كثيرا .. وانشرح صدرها ..

وكانت سعيدة جدا من مدحي لها وشعرت بنشوة فرح سرتني كثيرا ..

وأهديتها البالونة وأخذت أطفالي وذهبت وقد برد ما في قلبي قليلا ..

ذهبت عنها وما نسيتها ..

فأين الآباء عن الأبناء ...

لما يهجر الأطفال فلا يلاعبون ..

ولا يضحك معهم ولا يتنزل في مضاحكتهم ..

فهم دمنا الذي يجري وروحنا التي تسري ..

أما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلاعب أحفاده ..

أما كان الحسن والحسين يرتحلانه وهو خير من وطئ الثرى ..

-----------------------------

موقف مؤلم أجعل منه رسالة إلى الآباء والأمهات ..

لا تجعلوا أطفالكم أغنياء في المال وتفقروهم من العاطفة

فو الله لهم أحوج إلى جرعة من العاطفة أكثر من رغبتهم في طعام أو شراب ..

والله يحفظكم ويرعاكم



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
صغير بس خبير
مشرف
مشرف



ذكر عدد المساهمات : 460
نقاط : 626
السٌّمعَة : 0
المزاج : جيد جدا

قصص واقعية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص واقعية   قصص واقعية Emptyالخميس يونيو 24, 2010 12:18 pm

نار الدنيا أهلكتني .. فكيف بنار الآخرة ؟






السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إليكم إخوتي في الله هذه الكلمات .. أكتبها والله العالم بأني أكره ذكرها .. ولكني سأكتبها لكم للعظة والعبرة..

إخوتي .. أنا لا أتكلم عن أي فتاه .. فهي قريبة مني .. ليست أمي ولا أختي ولا حتى صديقتي .. إنها أنا .. نعم هذه الحكاية أنا بطلتها .. وهذا الموقف حدث معي شخصيا ً .. وهي سبب رجوعي إلى الله

إليكم القصة

كنت في المرحلة الإعدادية وكنت تاركه للصلاة لا تهمني ولا القي لها بالا ً .. كنت أصليها ولا أصليها في نفس الوقت .. فأنا أقوم بالحركات ولكني والله لا أعلم ما أقول
إخوتي .. في مرحلة الإعدادية كنت أحب معلمة من المعلمات .. أحبها لدرجه أنها الشغل الشاغل لي .. إذا تكلمت تكلمت عنها .. وإذا كتبت كتبت فيها .. حتى إذا نمت كانت الشخصية الرئيسية في أحلامي ...

لا أطيل عليكم .. كان علينا امتحان في المادة التي تدرسني إياها تلك المعلمة .. وكنت أدرس .. فأشتهيت شيئا آكله فذهبت إلى المطبخ ... وكانت المصيبة
لم انتبه إلى ألسنت النار تأكل ثيابي .. فقد كنت مشغولة بالتفكير في تلك المعلمة

نعم احترقت .. احترقت يدي وظهري وجزء من شعري .. نعم لقد ذقت نار الدنيا التي لم تترك أثرا ً ليدي .. تلك اليد التي كنت أرعاها وأحافظ على جمالها .. ها هي احترقت .. بل اختفت كليا ً .. نعم اختفت .. أنا ذقت نار الدنيا ووالله .. والله .. لم اقترب من الغاز من ذلك اليوم .. بل تشغيل الغاز عندي .. كأنه اختبار بل هو امتحان .. أرسب فيه كل مرة .. ولا أعتقد إنني سأنجح فيه ..

إخوتي .. لم أذكر قصتي هذه لأحصل على شفقة من أحد .. ولم أذكرها لأنني أفتخر كيف كنت سابقا ً .. بل ذكرتها للعبرة .. فيا إخوتي أنا ذقت نار الدنيا .. ووالله لم أذقها إلا ثواني معدودة .. وأنا أتعالج من هذا الحرق منذ أربع سنوات ولم انتهي بعد من العلاج

فهذه الرسالة إليكم .. أكتبها ولا أرجو إلا دعوة منكم أن يسامحني ربي عن كل شي فعلته في تلك السنين المظلمة .. وأنا الآن لا أفوت أي فرض كما أنني أصلي بعض السنن أحيانا ً .. فالحمد لله على كل شي

اللهم لا تجعلنا من أصحاب القلوب القاسية .. اللهم أجعلنا من أصحاب اليمين .. اللهم أحشرنا من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. واجعل أعمالنا خالصة لوجهك .. يا أرحم الراحمين

أختكم


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سجاد العراقي
صاحب المنتدئ
صاحب المنتدئ
سجاد العراقي


ذكر عدد المساهمات : 429
نقاط : 10118
السٌّمعَة : 0
العمر : 36
المزاج : جيد جدن

قصص واقعية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص واقعية   قصص واقعية Emptyالجمعة يونيو 25, 2010 11:17 am

يسلموووووووووووو بس عدلة مواضيعك مو شي بطن شي قصص واقعية 385788
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://jhfi.alafdal.net
 
قصص واقعية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» قصص واقعية
» قصص واقعية
» قصة حب واقعية لكنها محزنة ارجو الدخول ولا تحرموني من ردودكم
» قصص واقعية
» القتيلة نشيد إسلامي عن قصة واقعية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات عيون بغداد :: ô¦¦§¦¦ô¤~ المنتديات الأدبيه و الثقافيه ~¤ô¦¦§¦¦ô :: قصص حب رومانسيه - روايات - قصص واقعيه - Novels-
انتقل الى: